وبدأ الصديق رضي الله عنه أول أعماله الكبيرة العظيمة بإنفاذ بعث وجيش أسامة رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الجيش الذي كان على حدود المدينة المنورة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرساله لمناطحة العدو في الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، على حدود الروم، ولتأديب قبائل قضاعة التي انحازت إلى الروم في غزوة مؤتة.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هذا الجيش لتأديبهم واختار لهذا الجيش أسامة الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره! وأمر الصديق بأن ينفذ جيش أسامة، ولم يتجاوز الجيش حدود المدينة المنورة إلا وقد أطلت فتنة برأسها كادت أن تدمر الأخضر واليابس لولا أن من الله على الإسلام -كما قال ابن مسعود - بـ أبي بكر رضي الله عنه.
بدأت فتنة أهل الردة والمرتدين، فمنهم من ارتد عن الإسلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لم يدخلوا في الإسلام إلا مداهنة وتقية، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، وقالوا: كنا نؤديها لرسول الله، فلن نؤديها لأحد بعده، فقال الصديق قولته الخالدة: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
ويومها ذهب الفاروق عمر ليناقش الصديق في هذه الفتوى ويقول: يا خليفة رسول الله! أتقاتل قوماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من قالها عصم مني دمه وماله؟! ولكن الصديق كان أفهم الصحابة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يا عمر! إلا بحقها والزكاة من حقها؟ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
يقول عمر فما لبث أن شرح الله صدري لما رأى أبو بكر رضي الله عنه.
ولما أطلت هذه الفتنة برأسها رأى بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر وأسامة بن زيد قائد الجيش: أن في إرسال جيش أسامة مخاطرة رهيبة؛ لأن المدينة نفسها مهددة بالغزو من المرتدين، فلابد أن يبقى الجيش لحماية المدينة في هذا الظرف الحرج، ولكن هذا الرجل عجيب يظهر إيمانه ويقينه مرة أخرى ويعلن قولته الخالدة ويقول: والله لو تخطفتني الذئاب لأنفذت بعث أسامة ولست أنا الذي يرد قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن ينفذ جيش أسامة.
فلما رأى الصحابة أبا بكر مصراً على رأيه ذهبوا إليه مرة أخرى وعلى رأسهم عمر، وقالوا: إن كان ولابد يا خليفة رسول الله فاجعل على رأس الجيش من هو أسن وأكبر من أسامة فمسك أبو بكر بلحية عمر وقال: ويحك يا ابن الخطاب! أيوليه رسول الله وأعزله أنا؟ والله لا يكون.
وأراد الصديق أن يفض هذا الإشكال فقام بنفسه مع عمر إلى حيث عسكر الجيش الإسلامي بقيادة أسامة وخرج إليهم على حدود المدينة فلقيهم أسامة بن زيد على ظهر فرسه والصديق يمشي على رجليه، فنظر أسامة الذي تربى في مدرسة النبوة وقال: يا خليفة رسول الله! والله إما أن تركب وإما أن أترجل، فقال الصديق والله لن أركب ولن تترجل! وأكثير عليَّ يا أسامة أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟! ومشى الصديق على الأرض إلى جوار قائد الجيش أسامة ابن الثمانية عشرة.
مشى خليفة المسلمين خليفة رسول الله إلى جوار أسامة ليبين للناس أنه إمام وأستاذ وقائد الموكب.
إن الإسلام لا ينظر إلى سن ولا نسب ولا إلى شرف، بل إن ميزان الإسلام هو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، ووقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليزف هذه الوصايا وليبين لهذا الجيش المبارك دستوره الحربي في أعظم دستور عرفه التاريخ، فوالله ما عرف التاريخ دستوراً حربياً أعظم ولا أطهر ولا أشرف مما عرفه التاريخ في حروب الإسلام طيلة القرون الطويلة الماضية، وسوف يظل التاريخ يقف أمام هؤلاء وقفة إجلال وإعظام وإعزاز وإكبار! اسمعوا أيها الأحبة ماذا قال الصديق للجيش؟ حمد الله وأثنى عليه وقال: لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا -أي بالجثث-، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرةً ولا بعيراً إلا للطعام، وسوف تمرون على قوم قد تفرغوا للعبادة في صوامعهم فدعوهم على ما هم عليه، ثم قال: اندفعوا باسم الله.
هذا هو الميثاق، وهذا هو دستور الحروب في الإسلام فأين أدعياء الحضارة الذين يتغنون ويرقصون لخدمة الإنسانية في الليل والنهار؟! أين أدعياء الحضارة الذين ساموا الإنسانية سوء العذاب؟! وإن ما يحدث على خشبة المسرح العالمي في جمهورية البوسنة والهرسك لأعظم دليل على أن هؤلاء كذبة فجرة وخونة، لا يعرفون من هذا المضمار إلا هذه الكلمات الجوفاء الكاذبة الرنانة.
أين هم من أبناء الشعب المسلم في البوسنة؟! سفكت دماؤهم، ومزقت أشلاؤهم، واغتصبت نساؤهم، وقتل أطفالهم وحرقت بيوتهم، أين هم من هؤلاء؟! (لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة) إنه دستور الإسلام! وانطلق الجيش على بركة الله وباسم الله، تحت راية الإسلام، وباسم التوحيد والإيمان، بأوامر هذا الابن المبارك للإسلام، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه!! وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.