تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري فرأيته قد رفع أصبعه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، تقول: فعلمت أنه يخير، وأنه لا يختارنا) ، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري من طريق الزهري عن عروة أنها قالت: (فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، تقول: وسقطت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه قد مات) .
فخرجت عائشة تصرخ، فلقيها فاروق هذه الأمة عمر وصرخ عمر: رسول الله ما مات، ورفع السيف وقال: والله لأعلون بسيفي هذا كل من زعم أن رسول الله قد مات، وإنما ذهب إلى لقاء ربه عز وجل كما ذهب موسى بن عمران وليرجعن ليقطعن أيدي وأرجل المنافقين، وخرس لسان عثمان وأقعد علي.
هذا حال هؤلاء الأطهار! حال هؤلاء الأخيار الأبرار، فما ظنكم بمن دونهم؟! وثبت الله يومها صديق الأمة وعاد أبو بكر من بيته في السنح ورأى هذه الجموع الملتهبة المتأججة الصارخة الباكية فلم يلتفت إلى شيء، ويمم وجهه صوب غرفة عائشة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى حبيبه المصطفى مسجى وقد غطي وجهه الأنور، فجلس على ركبتيه بين يدي أستاذه وحبيبه رسول الله وبكى وقبله بين عينيه، وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله، أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم، وقال كما في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل (وانبياه واصفياه واخليلاه) وترك الصديق وأودع قبلة حانية رقيقة على جبين أستاذه وحبيبه وإمامه ونبيه وخرج إلى هذه الجموع المتأججة الملتهبة فقال: على رسلك يا عمر! اسكت يا عمر! أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] .
يقول عمر: فلما سمعتها وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات عقرت -أي: وقع على الأرض- وثبت الله الصديق رضي الله عنه أي ثبات هذا؟! وأي فصاحة وبلاغة هذه؟! من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات.
سبحانك يا من وهبت هذا اليقين وهذا الثبات لهذا الرجل العظيم الكبير!! يقول ابن مسعود: كدنا أن نقوم مقاماً بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهلك فيه لولا أن من الله علينا بـ أبي بكر.
نعم فرسول الله قد مات والدعوة أبقى من الداعية، والدين أبقى من صاحبه الذي جاء به للناس لا ليظل معهم عليه، وإنما جاء ليربط الناس بهذه العروة الوثقى، ثم ليمض إلى ربه وهم عليها من غير تبديل ولا تحريف ولا تعطيل.
مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فلتبق الدعوة وليبق الإسلام وليبق الدين، ويا راية الله رفرفي ويا خيل الله اركبي، ويا أبناء رسول الله قوموا! لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرت كلمات الصديق في قلوبهم وعروقهم سريان الدماء في العروق وسريان الماء في شقوق الأرض المتعطشة للماء، قاموا وعاد إليهم رشدهم.