الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
وهكذا أيها الأحبة! ظلت عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله جل وعلا الذي جمع بين قلبيهما أن يجمع بين ريقهما في أول يوم من أيام الآخرة للنبي صلى الله عليه وسلم وآخر يوم من أيام الدنيا.
تقول عائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيحين: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فبينما أنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، وقد علمت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار النبي برأسه: أن نعم، تقول: فأخذته فلينته، ثم نفضته، ثم طيبته، ودفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستن به أطيب ما كان مستناً قط، وكانت بين يديه ركوة من ماء يدخل يده فيها ويمسح العرق عن جبينه -الأزهر الأنور- وهو يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) ، ثم تقول: وإذ به يرفع يده ويقول: (بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى) ، ثم سقطت يده، فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم قد مات.
مات الحبيب على صدرها، وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، فيا لها من فضيلة عظيمة! ولم تمض إلا أشهر معدودات بعد سنتين ونصف بل أقل، وتصاب عائشة بمصاب لا يقل عن المصاب الأول حزناً وألماً، فلقد نام أبوها الصديق هو الآخر على فراش الموت، ودخلت عليه الصديقة رضي الله عنها وهي تقول: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف أبو بكر الغطاء عن وجهه وقال: لا يا بنية! لا تقولي هذا، وإنما قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ، وأوصاها الصديق أن يدفن في بيتها، إلى جوار حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
مات الصديق رضي الله عنه، وظهرت عبقرية الصديقة، وظهر علمها ومكانتها، وظهر فقهها ومكانتها الحديثية يبن الصحابة في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.
حتى كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: ما أشكل علينا نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا وجدنا عند عائشة منه علماً.
ظهرت مكانتها العلمية، وتفرغت للعلم ولرواية الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث روت أكثر من ألفين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرغت للعلم وللتدريس، وكان كبار الصحابة يرجعون إليها في عهد عمر وعثمان.