لقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم لـ عائشة قدرها، فكانوا يتحرون بهداياهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عائشة، فإذا أراد صحابي أن يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية أخرها إلى أن يأتي النبي بيت عائشة، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقدم له الهدية في بيتها، والحديث رواه البخاري ومسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة -أي: اجتمع نساء النبي إلى أم سلمة - وقلن لها: يا أم سلمة! إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإننا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري يا أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يعطوه الهدية حيث ما كان وحيث ما بات، فذهبت أم سلمة واشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها رسول الله، فلما عاد إليها في نوبتها الثانية ذكرت أم سلمة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها رسول الله، فلما ذهب إليها في المرة الثالثة ذكرت أم سلمة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فوالله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) .
وفي رواية في الصحيحين: (أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن إليه مرة أخرى فاطمة -ابنته- رضوان الله عليها، فذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فقالت له: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فنظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أي بنية؟ ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى يا رسول الله، قال: فأحبي هذه) أي: عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
ولذلك -أيها الأحباب- حملت شدة وشظف العيش أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن يطلبن من رسول الله أن يوسع عليهن في النفقة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معروف لا يعيش عيشة الملوك والأكاسرة والقياصرة، وإنما يعيش الحبيب مع زوجاته عيشة متقشفة، فقد كان يمر على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشهر والشهران ولا يوقد في بيت من بيوت الحبيب نار -أي: لا يطهون طعاماً- فلما سئلت عائشة رضي الله عنها: فماذا كنتم تأكلون إذاً؟ قالت: كنا نعيش على الأسودين: التمر والماء.
بل لقد ورد في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته ما أخرجه من بيته إلا الجوع، فمر على أبي بكر وعمر، فسألهما: ما الذي أخرجكما؟ قالا: والله ما أخرجنا إلا الجوع يا رسول الله! فنظر إليهما الحبيب وقال: والله ما أخرجني إلا الذي أخرجكما) .
اشتكى نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعيشة وهذا الضيق، وسألن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهن في النفقة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، واعتزل نساءه شهراً كاملاً، إلى أن نزلت عليه آية التخيير من الله جل وعلا، فأمر الله نبيه أن يخير نساءه بين الدنيا وزينتها مع فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الصبر معه على ضيق الحال مع الثواب العظيم في الدار الآخرة.
تقول عائشة: فلما خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بدأ بي، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم: (لما أمر رسول الله أن يخير نساءه أو أزواجه بدأ بي، فقال لي: يا عائشة! إني ذاكر لك أمراً فما عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك -تقول عائشة بدلال: وقد علم أن أبواي لم يكونا ليأمراني بفراقه- تقول: فقرأ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28-29] ، فلما استمعت عائشة إلى هذه الآية قالت له: في أيّ شيء أستأمر أبواي يا رسول الله! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) .
تقول عائشة: وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت.
وهذه -أيها الأحبة- منقبة عظيمة وفضيلة كبيرة لـ عائشة، تبين كمال عقلها، وصحة رأيها مع صغر سنها.