في السنة الشريفة نصوص كثيرة عن علو همة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن تسابقهم إلى المعالي، كيف لا وقد أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)؟! وتجد كثيراً من الناس من أعراض هبوط الثقة بالنفس، وهبوط الهمة عندهم، أنك بمجرد أن تبدأ تناقشه، أو تكلفه بشيء يقول لك: لا أستطيع، ولا أقدر، فيعتذر ويهرب دائماً من أن يتحمل أي شيء من المسئولية حتى ولو كانت صغيرة، وهذه علامة سيئة، وملمح قبيح من ملامح الشخصية، فهو ضعف في الثقة بالنفس، وقلة في التقدير لها، وضعف في الهمة، بينما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم هنا يقول: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) فهذا حث للإنسان على الحرص حتى تصعد همته إلى تحقيق ما يصبو إليه، أو يكلَّف به.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -النخلة الصغيرة-فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) مع أنه لا يوجد وقت للإنسان حتى يغرسها، فالدنيا ستخرب بعد حين، ومع ذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الفرصة إلى أقصى مدى، ولا نتفكر في المستقبل، بل عش لحظاتك الحاضرة، ولا تقل: متى أغرسها؟! ومتى تثمر والقيامة على وشك القيام؟! لا، وإنما افعل ما تستطيعه فإنك ستثاب عليه، وسينفعك هذا الغرس.
وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من دعائه: (وأسألك العزيمة على الرشد)، يعني: أن تتحرك همته دوماً نحو الرشاد والأعمال الصالحة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها)، ومعالي الأمور هي الأخلاق الشرعية، والخصال الدينية، وليست الأمور الدنيوية؛ لأن العلو فيها نزول.
وقد طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الهمة العالية بأن الله عز وجل يمدهم بالمعونة على قدر سمو هممهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المئونة) أي: على قدر ما يكلفك الله سبحانه وتعالى تأتيك المعونة، فنحن نلاحظ الطالب -مثلاً- طوال السنة قد يعجز عن أن يذاكر كتاباً معيناً بينما نجده في أيام الاختبارات حينما يركز همته ويعليها، وتكون القضية قضية مصير، فإنه في ليلة واحدة يمكن أن يقرأ مجلداً كاملاً، وينتهي منه، ويحفظه، ويستطيع أن يدخل الامتحان ويتفوق فيه؛ لأنه استحث همته، وعلى قدر الهمة تأتيك المعونة من الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تنجز عملاً في يوم أو يومين، وشرعت في ذلك وحرصت عليه، فإن الله يمدك بالعون على قدر نيتك وهمتك، وهذا مجرب.
وقد بيَّن صلى الله عليه آله وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألّا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)، وامتدح صلى الله عليه وسلم قوماً بعلو همتهم فقال: (لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من فارس)، فانظر إلى هذا التعبير عن علو الهمة.
إن عامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين فيها تحريك للهمة؛ لأن الهمة هي قوة الإرادة، فهذه النصوص ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها واستحثاثها للتنافس في الخيرات، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر.
فمثلاً: يقول عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه -أي: يقترعوا عليه- لاستهموا، -يعني: لشدة التنافس- ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً).
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، وهذا الحديث كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وهذا ليس خبراً فحسب، بل المقصود منه الحث على الارتقاء، حتى تقارن بين هؤلاء وهؤلاء، وهو مثل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء:95] إلى آخر الآيات، كذلك هنا: (يقال لصاحب القرآن) فالمفروض على المؤمن الذي عنده همة أنه إذا سمع هذا الحديث أن تعلو همته إلى الترقي في الآخرة، فيحفظ القرآن الكريم، ويجتهد في ذلك؛ حتى يتمه، ففي استطاعتك أن تحدد منزلتك من الجنة بهذا الحديث، فكلما اجتهدت في حفظ القرآن كلما ارتقيت منزلة أعلى عند الله سبحانه وتعالى، فهذا لحديث يبشر حفظة القرآن وحملته القائمين بحقه بأعلى المنازل في الآخرة، فسوف ترتفع درجتك في الآخرة بعدد آيات القرآن التي تحفظها.