إن الفصل المتبقي من مقدمات البحث هو الحث على علو الهمة كما ورد في الكتاب وفي السنة، فقد تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور، والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك، فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صوره، كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] فهذا من سفالة الهمة، وسقوطها، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:175 - 176] أي: سفلت همته، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، وقال أيضاً واصفاً حال اليهود، ومبيناً سقوط همتهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5]، وقال في وصف أشباههم: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الأنعام:91] يعني: علمتم فلم تعملوا، فهذا ليس بعلم، في حين أنه سبحانه مدح يعقوب عليه السلام بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] يعني: ذو عمل بما علمناه.
وذم سبحانه المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم، وقناعتهم بالدون، فقال عز وجل: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87] يعني: قنعوا بذلك، وفرحوا به، فهذا أثر من آثار سقوط همتهم، وبين أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، وشنع الله عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وهذا بلا شك أجلى مظاهر سفالة الهمة، فهم يجعلون الدنيا أكبر همهم، وغاية علمهم، فيعتبر هذا الإيثار أسوء مظاهر خسة الهمة، وبين الله تعالى أن الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38] فهل يرضى أحد بالدنيا بدلاً من الآخرة؟! {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] , وقال أيضاً: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29] فهذا سافل الهمة، فما يريد إلا الدنيا، ولا يعيش إلا للدنيا، وقال أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء:134] أي: من كان يريد ثواب الدنيا كالذي يجاهد -مثلاً- لطلب الغنيمة، فما له يطلب أخس الأمرين، وأمامه فرصه أن ينال ثواب الدنيا الذي يريده وثواب الآخرة بالإخلاص لله عز وجل؟! وهذه إشارة إلى أن يرتفع الإنسان بهمته، فالذي سيعطيك الدنيا قادر على أن يعطيك الآخرة، فاطلب الأمرين جميعاً، كما قال عز وجل: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: من نصيب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
إذاً: أمامك الخيار: إما أن تطلب الدنيا فقط، وهي أخس المطالب، وإما أن تطلب أشرف المطلبين، وهو الآخرة فقط، وإما أن تطلب الأمرين معاً: الدنيا والآخرة, فما بالك تقنع بأن تطلب الدنيا فقط وهي أخس هذه الخيارات؟! فهذا هو المقصود من قوله عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يعني: فما له يطلب أخسهما؟ هلّا طلب أشرفهما أو طلبهما معاً؟! وذم الله عز وجل حرص اليهود على الحياة، ولو كانت ذليلة مهينة فقال عز وجل: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، وشنع القرآن الكريم على المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى باعتبار أن الشرك أجلى وأوضح مظاهر خسة الهمة، فالإنسان الذي كرمه الله عز وجل، وآتاه العقل والفطرة، وأرسل له الأنبياء، وأنزل إليه الكتب، وأراه الآيات في الآفاق وفي نفسه، ومع ذلك يعمد إلى صنم نحته بيده فيعبده، ويسجد له ويركع له، ويسأله ويتوسل إليه يدل على خسة همته، أو تجد أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل له عبداً ليهديه، ويأخذ بيده إلى الجنة، فبدلاً من أن يعبد الله المرسِل يعبد المرسَل كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام، فعبدوا النبي الرسول وأعرضوا عن عبادة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلقهم وخلق ذلك الرسول؛ فهذا بلا شك من أجل مظاهر خسة الهمة، والذي يثلث الآلهة ويقول: إن الله ثلاثة خسيس الهمة دنيئُها.
وكذلك يقول تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
وقال عز وجل في عابدي المسيح مبيناً خسة همتهم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]، فقوله: (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) يعني: كانا محتاجين إلى الطعام، فهل الإله يحتاج إلى الطعام؟ وماذا يلزم من الطعام؟ يلزم من الطعام الإخراج، فهل الإله يخرج والعياذ بالله؟! فكيف يعبدونه إذن؟! فلو كانت نفوسهم شريفة، ولو كانت عندهم همة لارتقوا عن هذه العقيدة الخسيسة الدنيئة.