في العصر الأول حسمت النتيجة للمسلمين لما قورن بين الحضارة الإسلامية وحضارة الفرس والروم، فلما غزا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بجيشه مصر وعليها المقوقس بعث إليه عمرو عشرة رجال منهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان عبادة شديد السواد، وكانت الحادثة على حدود الإسكندرية.
وقد تشرفت الإسكندرية بهؤلاء الصحابة الذين أخرجوا مصر من الظلمات إلى النور، فكم يفخر الإنسان ويفرح ويتهلل وجهه إذا استحضر أن عمرو بن العاص أتى إلى هذه المدينة التي هي الإسكندرية، وقد كانت العاصمة، وفيها سور عمرو بن العاص الذي في الشلالات، فهو السور الذي كان يحيط بمدينة الإسكندرية، فشرفت هذه البقعة من بلاد الله سبحانه وتعالى بهؤلاء الأطهار الأبرار الذين جاءوا ليخرجوا أهل مصر من الظلمات إلى النور، وكم نتحسر حينما نرى من يحملون أسماء المسلمين وكل همهم أن يمحوا تماماً أثر ما فعله عمرو بن العاص وصحبه الأبرار، وأن يعيدونا إلى ما كنا عليه قبل تشرف مصر بالفتح الإسلامي العظيم الذي يسمونه كذباً وزوراً وتزويراً وتضليلاً بالفتح العربي، وما كان فتحاً عربياً، وإنما كان فتحاً إسلامياً خالصاً لنشر دين الله سبحانه وتعالى في الآفاق.
لما أتى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المقوقس، وكان عبادة شديد السواد، وقد أمره عمرو بأن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس وعلى رأسهم عبادة هابه المقوقس، وخاف من منظره؛ لأن عبادة كان طويلاً قوياً شديد البأس، وكان شديد السواد، فصرخ المقوقس قائلاً: نحو عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني.
فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا.
انظر من البداية إلى الصراع بين الحضارتين، بين قيم وقيم، بين مثل ومثل، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله.
فاستعجب واستغرب المقوقس مما قالوا، ثم قالوا له: إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحد أحداً إلا بفضله وعقله، وليس بلونه.
ولا شك في أن المقوقس كان قد ساءه وجود عبادة بن الصامت رضي الله عنه للونه الأسود، وظن أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيراً لمقام المقوقس وتحقيراً لشأنه، لكن لا يمكن أن يخطر هذا ببال عمرو بن العاص ولا بأحد من المسلمين رضي الله تعالى عنهم.
فلما أجمع رسل المسلمين على أن المتحدث باسمهم جميعاً عبادة لم ير المقوقس بداً من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة لما رآه يخاف من منظره ومن شكله بهذه الصورة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي.
فانظر إلى الحرب النفسية! وهذا كلام صدق وعن جدارة، وليست هذه الحرب كالحرب النفسية الكاذبة في هذا الزمان، فهو أراد أن يقذف في قلبه الرعب عندما رآه مرتعباً، فقال له هذه العبارات العظيمة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه بليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في طلب رضوانه وجهاد عدوه.
فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعاً شديداً، وقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض.
ثم أقبل على عبادة وأراد أن يسلك معه طريقاً للإرهاب الملبس بقالب من النصح، فقال له: أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشجاعة، لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به.
فنظر إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه شامخاً، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلاً: يا هذا! لا يغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وما من رجل منا إلا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.
وقد أراد المقوقس أن يجعله يقبل شيئاً مما عرض عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء، ووقف عبادة يرد عليه بعد أن نفذ صبره بقامته الشامخة، وأخذ يرفع يديه إلى السماء ويقول له: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: أما الأمر الأول -وهو الدخول في الإسلام- فلا نجيب إليه أبداً، فلا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه.
وبذلك رفضوا الإسلام، فلم يبق أمامهم إلا الجزية أو الحرب، فقالوا: إنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعد أن نكون عبيداً، وللموت خير من هذا.
قالو هذا مع أنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وتحفظ لهم كنائسهم، ولا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم، فقال المقوقس لمن حوله: أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الخصال الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين.
وهكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) يفتحون مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تَسُودُ، والموازين تصحح.