إن ما مضى من الكلام يبين لنا كيف أن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر، لاسيما العلم والجهاد اللذين هما سبب ارتفاع الدرجات؛ فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معالي الإيمان، إذ إن همم الرجال تزيل الجبال، يقول الشاعر: همم الأحرار تحيي الرمم نفخة الأبرار تحيي الأمم فأصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وأصحاب الهمة العالية هم فقط الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم.
وهذا بخلاف نوع آخر من الهمم قال فيه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى: ومن دواعي الأسف أن الذين عندهم نصيب من القوى الفكرية والقلبية من النوع الأعلى من أفراد أمتنا- يعني: الأذكياء والنوابغ- هم مولعون بإحراز الترقيات الدنيوية، يجاهدون في سبيلها ليل نهار، ولا يصبرون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانات منافعهم، فإذا كنتم -يخاطب أصحابه- ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل راياتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة! وهذه نصيحة شديدة وقاسية لكن لابد منها، وسبق أن ذكرت لكم مثالاً مؤسفاً أيضاً كهذا المثال، بعض الشباب في إحدى البلاد حينما طلب من بعضهم التبرع بتحفيظ الطلاب القرآن الكريم لوجه الله تذمر بعضهم لأجل أنه لن يعود عليهم ذلك براتب؛ وإن كان هذا في وقت فراغهم لكنه لن يعود عليهم بمال.
فجمعهم المسئول وقال لهم: لا تكونوا مثل ماكينة البيبسي -وفي الخارج توجد ماكينات تضع فيها العملة سواء ورقية أو معدنية فتخرج لك البيبسي، وإذا ما أعطيتها النقود لا تخرج لك- تعطيها العملة تعطيك الببسي، فأنتم إذا لم تأخذوا مالاً لا تبذلوا في سبيل الدعوة! فهذا مثال مشابه.
يقول المودودي: فإذا كنتم ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة التي لا تكلف وليس فيها دفع الثمن أن تتغلبوا على أناس يضحون بالأموال والأنفس وكل شيء في سبيل باطلهم فهذا ليس من العدل وليس من الإنصاف.
إذاً: أصحاب الهمة العالية هم وحدهم فقط الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثم فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن ووهدة الإحباط.
يقول الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى مبيناً أثر علو الهمة: يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمل جماعة من أن تتملق خصمها، فإذا كان الإنسان عنده علو همة فلا يجود لسانه بمدح خصمه، فلا يقول: إنه شريف وإنه كذا وكذا من النفخ في أعداء الدين وأعداء الإسلام؛ لأن هذا من علامات سقوط الهمة، وقائل هذا ذليل أمام الخصم فيضطر أن يمدحه بهذه الطريقة.
يقول الشيخ محمد الخضر حسين: هذا الخلق هو الذي يحمل جماعة من أن تتملق خصمها، أما صغير الهمة فإنه يبصر خصومه في قوة وسطوة، فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم.
وفي جنح هذا الظلام الحالك والليل الأليل تكاد تفتقد أمتنا البدر المنير، وتترقب مجيء رجل الساعة، والمصلح المنتظر ويحدوها الأمل في طلوع فجر قريب يؤذن ببعث المجدد المرتقب الذي بشر به الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على كل رأس مائة سنة من يجدد لها دينها).
وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا نظار لكم أن يرجع الحق راجع إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا على حين لا عذر لمعتذريكم ولا لكم من حجة الله مخرج لعل لهم في منطوى الغيب ثائراً سيسمو لكم والصبح في الليل مولج بجيش تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينغي الوحوش وهزمج فيدرك ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه تماماً وما كل الحوامل تخدج وإني على الإسلام منكم لخائف بوائق شتى بابها الآن مرتج لعل قلوباً قد أطلتم غليلها ستظفر منكم بالشفاء فتثلج فيا شباب الإسلام! قد فتح باب الترشيح؛ فهيا تسابقوا إلى العلى، وتنافسوا في جنة عرضها السموات والأرض، واختطوا لأنفسكم طريق المجد؛ فتالله ما ارتفع صوت الحادي يوماً لرفقة أولي صمم، ولا ارتفع الفلك الأعلى لغير أهل الشموخ والشمم.
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب هياماً بها فإن نحن فزنا فيا طالما تذل الصعاب لطلابها وإن نلق حتفاً فقد قدمت كئوس المنايا لشرابها هذه المهمة الجسيمة التي تبحث عن عالي الهمة وكبير الهمة هي التي قال فيها المجدد العلم والجبل الأشم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره.
فممن يعرف قدر نفسه بلا وكس ولا شطط يراها أهلاً لهذه الوظيفة المقدسة؟ من منكم يصف هذه الأحلام ويضرب صدره في عزة وشموخ قائلاً: أنا لها، أنا لها؟! فإن كنت عن جدارة واستحقاق حزت مسوغات هذا الترشيح فامض على بصيرة ولا تلتفت إلى الوراء حتى يفتح الله عليك، وحذار أن تغفل ولو لحظة.
لحظة يا صاحبي إن تغفلِ ألف ميل زاد بعد المنزلِ رام نقش الشوك حيناً رجلُ فاختفى عن ناظريه المحملُ وزاحم بكتفيك وساعديك قوافل العظماء والمجددين من السلف والخلف، ولا تؤجل فليس من تأجيل فإن مرور الزمن ليس من صالحك، وإن الطغيان كلما طال أمده كلما تأصلت في نفوس المتميعين معاني الاستحذاء، ولابد من مبادرة تنتشل ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض وبذرة فطرة كامنة.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ولا يظنن ظان أن حديثنا عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي، وقطع النظر عن الحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئاً للحاضر أو المستقبل.
ولا يظنن ظان أننا بهذا الحديث عن علو همة السلف الصالح نرجع إلى الوراء في زمن تتسابق فيه الأمم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمة أخرجت للناس هو تألق وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيراً، وإن إبراز هذه النماذج الحية هو أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التي لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحاً يرحب بكل راغب.
إذا أعجبتك خصال امرء فكنه يكن منه ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحادي من لا يحترمها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وتذكر يوم بدر حين خرج الثلاثة من كفار قريش يطلبون المبارزة، فأخرج لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: والله! لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش، فأخرج لهم علياً وحمزة وأبا سفيان بن الحارث فقتلوهم، وكذلك الناس دوماً تحب المكافأة حتى حين يقتلون.
والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، والمؤسسات الصحفية، والمعاهد السياسية، والدور الوثائقية، وغير ذلك من مجالات هذه الأنشطة، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة.
هذا زمان لا توسط عنده يبقي المغامر عالياً وجليلا كن سابقاً أو ابق فيه بمعزل ليس التوسط للنبوغ سبيلا والنداء الأخير إلى هذا الشخص الذي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفرج يكون على يديه بإصلاح هذه الأمة وتجديد هذا الدين، هذا المصلح المرتقب والمجدد المنتظر الذي سيخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول فرعون أن يتقيه، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يخلف.
وقد يكون الآن كامناً في ظهر الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، وقد يكون رضيعاً في المهد، أو ناشئاً يقرأ أو يسمع معنى هذه الأبيات: أنت نشء وكلامي شعلُ عل شدوي مبرم فيك حريقا ليس في قلبي إلا أن أرى قطرة فيك غدت بحراً عميقاً فالأمة المسلمة تنتظر من هذا المجدد جذبة عمرية توقظ في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر صيحة أيوبية تغرس بذرة الأمل في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة تأتي من الله المعونة.
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود ورسمناها خطاً للعز والنصر تقود فتقدم يا أخا الإسلام قد سار الجنود ومضوا للمجد إن المجد بالعزم يعود قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى آخره خير أم أوله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشا