نصيحة المخلصين سبب من أسباب الارتقاء بالهمة

من أسباب الارتقاء والارتفاع بالهمة: نصيحة المخلصين النصيحة المخلصة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) وهذا الناصح قد يكون أباً شفيقاً أو أماً رحيمة، أو زوجة تحضه على الخير، وقد يكون هذا الناصح رجلاً من عوام المسلمين، وقد يكون من علماء المسلمين كما سنفصل إن شاء الله تعالى.

فقد يكون هذا الناصح الأمين الذي ينصحك ويوجهك وينفعك في الارتقاء بهمتك أباً شفيقاً، كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي وقد بلغت خمس عشرة سنة: إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا- أي: انتهى موضوع الطفولة والصبا- فاتبع الخير تكن من أهله؛ فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها، ولا أميل عنها.

وقد يكون الناصح أماً رحيمة، فهذه أسماء ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها توصي ابنها عبد الله بن الزبير لما استنصحها فقالت له: (الله! يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو عليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير! والله! لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ظلم، فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله)، وهو في الحقيقة ما كان يخاف، فهو أكبر من ذلك، لكنه كان يريد أن يطمئن على ما عندها، فهذه بلا شك نصيحة أم، فانظر كيف تحثه حثاً على علو الهمة حتى لو كان في ذلك نحبه؟! وقد يكون الناصح الأمين زوجة تحضه على الخير، والزوجة بلا شك تكون من أكثر عناصر التثبيط أو التشجيع، ومن ثم حرضنا الشرع الشريف على البحث عن الزوجة الصالحة؛ لأنها تكون عوناً للإنسان على دينه، فتحضه على الخير وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى، فالزوجة الصالحة تحضه على الخير وترقي همته، مثل امرأة حبيب أبي محمد انتبهت ليلة وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت: قم يا رجل! فقد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.

أو كالزوجة الصالحة العاقلة الذكية الدينة موضي بنت أبي وهطان زوجة الأمير محمد بن سعود رحمه الله، والتي كان لنصيحتها أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري إلى يومنا هذا، فإنها هي التي حثت زوجها على مناصرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وشد أزره، وإشهار سيفه من غمده نصرة لدعوة التوحيد، فهذه المرأة كانت عنصراً أساسياً خلف تأييد ومناصرة دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

وقد يكون الناصح الأمين الذي يرتفع بهمتك رجلاً من عوام المسلمين.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو يصف محنته: صرنا إلى الرحبة -بلدة معينة- ورحلنا منها في جوف الليل فعرض لنا رجل، فقال الرجل: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فقال للجمال: على رسلك، ثم قال: يا هذا-يخاطب الإمام أحمد - ما عليك أن تقتل ههنا وتدخل الجنة؟ ثم قال: أستودعك الله، ومضى، فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له: جابر بن عامر يذكر بخير.

وقال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر-الفتنة- أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق -وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات- قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً، فقوي قلبي.

فانظر كيف أثرت نصيحة رجل من عوام المسلمين، والإمام أحمد يقول: رجل أعرابي، يعني: ليس بعالم ولا مشهور ولا يشار إليه بالبنان، لكن أثرت كلمته في قلب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وحكى الحافظ ابن كثير رحمه الله: أن أعرابياً نصح الإمام أحمد في المحنة، فقال: يا هذا! إنك وافد الناس، فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم إلى يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل.

قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه.

وما أحسن ما كتبه رجل أسره الصليبيون في بيت المقدس من أبيات لها أهميتها في موضوع التشجيع في الارتفاع بالهمة، فإن التشجيع يكون له أثر عظيم جداً في الارتفاع والارتقاء بالهمة، ويكفي أن التشجيع قد جعله الله سبحانه وتعالى فرضاً على المسلمين في بعض الأحوال، والعلماء حينما يتكلمون عن فروض الكفايات يقولون: إن الأمة لو لم تقم بفرض الكفاية يأثم الجميع: القادرون وغير القادرين، يأثم القادرون؛ لأنهم لم يفعلوا، ويأثم غير القادرين؛ لأنهم لم يحرضوا ولم يشجعوا ولم يستحثوا القادرين، فحتى غير القادر يجب أن يحث القادر، ولذلك الإنسان لا يحتقر أبداً أي نصيحة أو أي كلمة تشجع إخوانه القائمين بأمر الدعوة أو بأمر الله سبحانه وتعالى.

هذا رجل من المسلمين أسره الصليبيون في بيت المقدس، فكتب هذه الأبيات على لسان المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، ولم يقل له: أريد أن أتحرر من الأسر، أو أريد أن أعود إلى أولادي ومالي وكذا، وإنما انظر إلى ما كتبه على لسان المسجد الأقصى وهو يخاطب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى حيث قال له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي منجس فكان لها أعظم الأثر في قلب صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، والظلامة هي ما يكتبه المظلوم، يعني: فكأن المسجد الأقصى يخاطب صلاح الدين بهذه الأبيات.

أما نصائح العلماء فلا تسل عن حسنها وعميق أثرها في انبعاث الهمة: سيق الإمام أحمد إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه، حتى إن الخادم قال للإمام أحمد رحمه الله تعالى: يعز علي يا أبا عبد الله! أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، فانبرى أبو جعفر الأنباري يشد أزر الإمام، فقال رحمه الله: ولما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنيت.

يعني: أتعبت نفسك، فقال: يا هذا! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فأنت تموت، فاتق الله ولا تجب، فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر! أعد، فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله.

وقال الإمام أحمد رحمه الله واصفاً حال رفيقه في المحنة محمد بن نوح: ما رأيت أحداً على حداثة سنه، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله! إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك؛ لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، فمات وصليت عليه ودفنته.

بل إن من لم يتصل مباشرة بالإمام أحمد في محنته كان معه بوجدانه، يتحسر لعدم مشاركته إياه العذاب والآلام.

قيل لـ بشر بن الحارث الحافي يوم عذب الإمام أحمد: قد ضرب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطاً، فمد بشر رجله وجعل ينظر إلى ساقه، ويقول: ما أقبح هذا الساق ألا يكون القيد فيها نصرة لهذا الرجل! ومن نصائح العلماء المؤثرة جداً، والتي ممكن أن تغير سير حياة كاملة لإنسان ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: إن الحافظ القاسم بن محمد البرزالي رحمه الله هو الذي حبب إلي طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين، فأثر قوله فيَّ وسمعت منه وتخرجت به في أشياء.

فالإمام الذهبي الذي هو الإمام الذهبي ولا نستطيع أن نقول أكثر من هذا، كان سر عظمته في علم الحديث وتوغله في هذا العلم هو هذه الكلمة العابرة التي قالها له الحافظ البرزالي حينما نظر إلى خطه فقال له: خطك يشبه خط المحدثين، يقول الذهبي: فأثر قوله فيَّ، وسمعت منه وتخرجت به في أشياء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015