من أسباب ضعف الهمة: الغفلة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وكلما زاد الجهل كلما زادت الغفلة في الإنسان، فالجهل عدو الفضائل كلها، فهل علمتم أمة في جهلها ظهرت في المجد حسناء الرداء؟! قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة.
وقال شعبة بن الحجاج: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم.
أي: لا تقعد فارغاً من العمل الصالح؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه فراغ؛ فإن الموت يطلبك، ويجري وراءك، وكل لحظة تمر أنت تقترب بها خطوة إلى السطح، وهو موعد أنت لا تعرف متى يحل، فقد يكون بعد ساعة، أو بعد لحظة أو بعد دقيقة أو بعد سنة، فلا تدري متى يحضر، فكن متأهباً لملاقاة الموت، ولذلك يقول: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم.
يقول أبو الدرداء: (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه)، أي: هو يجري وراء الدنيا، والموت يجري وراءه، قال: (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، ولغافل وليس بمغفول عنه)، أي: هو غافل، لكن هل الله غافل عنه؟
صلى الله عليه وسلم لا، ليس بغافل عنه، قال عز وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29].
قال: (وضاحك ملء فيه ولا يدري أرضي الله عنه أم سخط عليه؟)، فلاحظ قوله: (ملء فيه)، كما نرى الذين يضحكون من المسرحيات الكوميدية، ويضحكون على الذين في التمثيليات، والمتطرفين والإرهابيين، وكل هذا مما توحيه الشياطين إلى هؤلاء الناس، فيضحك أحدهم ويفرح ويمرح وهو لا يدري هل الله سبحانه وتعالى فوق السماء راضٍ عنه أم ساخط عليه! قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31]، فهم ينكتون على هؤلاء الملتزمين، والله المستعان.
وسئل ابن الجوزي: أيجوز أن أفتح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.
يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد: وكلامه طيب جداً في هذه المسألة-: فإن اعترض معترض أتيناه بمثل كلام ابن القيم رحمه الله؛ حيث يقول: لابد من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم لا يدمن شيئاً من الغفلة.
وكما قدمنا في الكلام على الفترة، وذكرنا أن الإنسان لا يجعل الفترة هذه هي المستقر والوطن، بل هي فترة مؤقتة يستريح فيها، ثم يعود من جديد للعمل والاجتهاد.
فلذلك يقول ابن القيم: كل إنسان لابد له من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، لا تجعل نومك ثقيلاً، وتستمر في الغفلة، وتبقى هي الأصل في حياتك.
يقول الشيخ الراشد: والمراد: تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم كل حسب صحته وظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ لأننا في زمان حتى الهواء الذي نتنفسه مسموم، لا أعني: العوادم وتلوث البيئة الذي يتحدثون عنه، نعم هي تلوث، لكن أعني تلوث البيئة الأخلاقية تلوث البيئة الثقافية تلوث البيئة الفكرية تلوث البيئة الاجتماعية تلوث في كل مكان.
وقد ضرب بعض الناس لهذا مثالاً فقال: لو أن أناساً كانوا يعيشون في الريف، فأغلقوا الحجرات، وأتوا بالفحم وأحرقوه، وأقفلوا الشبابيك؛ لأجل أن الجو بارد، فيريدون أن يدفعوا هذا البرد، فماذا سيحصل؟ سيحصل الاختناق بسبب وجود غاز ثاني أكسيد الكربون بسبب الاحتراق، فيخنقهم الغاز ويقتلهم، مع أنهم يتلذذون بهذا الهواء الذي يستنشقون، فهؤلاء يختنقون دون أن يشعروا، يختنقون رويداً رويداً دون أن يحسوا بهذا السم.
فلو أتى رجل وفتح عليهم النافذة فحينئذٍ فقط يفرقون بين الهواء النقي وهذا الذي يتنفسونه.
وهكذا الوضع بالنسبة إلينا، فلا توجد نافذة نلقي منها الهواء المسموم الذي نحن فيه، ونصحح ما نتعاطاه من الهواء الفاسد إلا السير على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينما نرى أحوال السلف نحس بالسم الذي نعيش فيه، وقد حصل منا نوع من التكيف مع هذا الباطل، بل التأثر به، شئنا أم أبينا، فلا يمكن أن تنطلق قوتنا إلا بالمقارنة باستمرار مع أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، لأنهم هم الذين عاشوا في بيئة نقية مائة في المائة، وكانت الغلبة للإسلام، فما كان عندهم أي سموم في المعرفة التي يغص بها المسلمون الآن، فكل الأعراض مسممة إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى من البقايا الذين يدعون إلى منهج السلف الصالح يرحمهم الله تعالى، ويذكرون الناس بأحوالهم، فهذا هو المنبع الوحيد الذي نستطيع أن نقوم به اعوجاجنا، وأن نطلع بين وقت وآخر على أحوال السلف؛ حتى نراجع أنفسنا، وإلا فسوق نسقط صرعى للتضليل وللآبار المسمومة، ولهذا الغاز المسموم.
يقول الشيخ الراشد حفظه الله: وإن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعاجلة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوط الأمراء، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف -طبعاً والدش والفيديو- وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف.
وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله لهذه الحقيقة حيث يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم.
يعنى: بالجرائد صباح ومساء، والنورسي في زمانه كانت وسيلة الاتصال بين أقطار العالم هي الجرائد، أما الآن فليست الجرائد فحسب، ولكن بالريموت كنترول، فبضغطة زر وهو جالس على الفراش ممكن أن يطوف كل أنحاء العالم، ويطلع ويعرض على قلبه لكل أنواع الكفر وكل أنواع المعاصي والفواحش بكل ما تعنيه من معنى، حيث تغزوه وتغزوا أهله، وأولاده في كل مكان، فضلاً عن مناهج التعليم، فضلاً عن رفقاء الشوارع.
فأقول: إن التناجي بالإثم الآن أصبح أعظم بكثير مما كان يتكلم عنه النورسي رحمه الله.
يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يليق في الجرائد صباحاً ومساءً، غلظ بسببها وتكاتف بملاهيها حجاب الغفلة؛ بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة.
يعني: لا يستطيع الإنسان أن ينجو من هذه الفتن كلها إلا بهمة قوية جداً؛ لأن الهوى يدفعه إلى هذه الأشياء، والشيطان يسول له، وصحبة السوء تحرضه، والنفس الأمارة بالسوء تأمره، فبالتالي لا يستطيع المقاومة إلا إذا كانت له همة يستعلي بها ويصعد ويرتقي أعلى من هذه المغريات كلها.
هذا فيما يتعلق بكون الغفلة سبباً من أسباب انحطاط الهمة.