لقد كان التابعي الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأزدي -رحمه الله- من نتاج تربية الأربعة الخلفاء الراشدين وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
عاف التجارات والبيوت لانشغاله بالجهاد، لم يكن له بيت يدخل فيه، ولم يكن يشتغل في تجارة، وما كان يعرف أي شيء عن هذه الأشياء، بنى له في الكوفة خصاً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، فمساحة الخص الذي اتخذه تسع جسده والفرس والسلاح فقط.
وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، يخرج للجهاد ويعود إلى هذا الحصن، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس؛ لأنه لم يمارس هذه الأشياء أبداً، وإنما عاش كل حياته من الجهاد وإلى الجهاد.
وكان إذا خلا ينشج -أي: يبكي بصوت وتوجع- من خشية الله سبحانه وتعالى، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل، وكان له خص يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضه، وإذا رجع بناه.
هكذا كانوا يمضون نحو غايتهم الكبرى لا يلتفتون إلى الوراء، ويقول أحدهم غير وجل ولا آسف: وأراني أسمو بسعيي ووعيي عن جزاء من معدن الأرض بخس حسب نفسي من الجزاء شعوري أنني في الإله أبذل نفسي يعني: يسمو ويتعالى عن أن يكون هدفه من الجهاد في سبيل الله عن جزاء من معدن الأرض بخس من ذهب أو فضة أو مال.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى وهو الإمام المجاهد الكبير: بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفس بما ليست له ثمناً إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا وعن موسى بن أبي إسحاق الأنصاري أن علي بن أسد كان قد قتل وصنع أموراً عظاماً -أي: من الظلم والخطايا- فمر ليلة بالكوفة، فإذا برجل يقرأ من جوف الليل: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فلما سمع الآية قال علي: أعد.
فأعاد، ثم قال: أعد.
فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل، ثم غسل ثيابه فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي بعير، فغزا في البحر فلقي الروم، واقتربت مراكبهم من مراكب العدو، قال علي: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً -يعني: هذه الفرصة لن أضيعها؛ لأني لا أعيش بعد اليوم، بل أطلب الشهادة الآن وهي توصلني إلى الجنة-.
فاقتحم بنفسه في سفائنهم، فمازال يضربهم وينحازون -أي: ينحازون كلهم إلى جانب واحد- حتى مالوا في شق واحد فانكفأت بهم السفينة فغرق وعليه درع حديد رحمه الله تعالى.
ويروى أن عقبة بن نافع وقف على شاطئ المحيط الأطلسي وخاض في مياهه بفرسه قائلاً: والله -أيها البحر- لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك وفتحتها بإذن الله.
فانظر إلى الهمة في بلوغ غاية الإمكان؛ لأن هذا أقصى ما استطاع أن يصل إليه، فلكي يمعن في التعبير عن هذا الإصرار خاض في البحر خطوات، وكان لا يعرف أن هناك أرضاً وراء هذا البحر.