روي عن عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه أنه أسرته الروم، فحبسه طاغية في بيت، ووضع له في هذا البيت ماءاً ممزوجاً بخمر ولحم خنزير مشوي؛ ليأكل الخنزير ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلا هو شرب الماء؛ لأن فيه خمراً، ولا أكل لحم الخنزير المشوي مع جوعه، ثم أخرجوه حين خافوا من موته من الجوع، فقال: والله لقد كان أحله الله لي؛ لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام.
وعبد الله بن حذافة السهمي صحابي توفي بمصر ودفن بمقبرتها في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وله قصة مشهورة حكاها أبو رافع قال: وجه عمر جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟! وفي بعض الروايات أنه عرض عليه أن يزوجه ابنته أيضاً.
فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين.
قال: إذن أقتلك.
قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه.
وأراد إرهابه فقط، وهو يعرض عليه أثناء ذلك النصرانية ويأبى، فأنزله ودعا بقدر فصب فيه ماء يغلي، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما فألقي في القدر وهو يعرض عليه النصرانية يأبى، ثم بكى، فقيل للملك: إنه بكى لما رأى الأسير الذي أدخلوه في ذاك الإناء الذي يغلي فخرج وهو عظام تلوح قد ذاب لحمه وشحمه في هذا الماء المغلي.
فظن أنه قد جزع وخاف، فقال: ردوه.
ثم سأله: ما أبكاك؟ قال: قلت: هي نفس واحدة، تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله.
فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله: عن جميع الأسارى؟ قال: نعم.
فقبل رأسه.
وعدو الله أراد أن يقبل رأسه ليرضي غروره، فحينما وازن الأمرين وجد أن إنقاذ إخوانه المسلمين أهم، وما قبل أن يفرج عنه وحده، وأقبل بالأسارى على عمر رضي الله عنه فأخبره خبره، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ، فقبل المسلمون رأسه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
يقول الشاعر: أجدر الناس بالكرامة عبد تلفت نفسه ليسلم دينه ولقد استوصى عابدٌ من العباد صاحباً له عمَّا يفعل من العبادات والطاعات فقال: هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بالترهات.
يعني: أعظم ما تتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى بذل روحك، وما عدا ذلك فترهات، يقول الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود وعن العلاء بن سفيان الحضرمي قال: غزا بسر بن أبي أرطأة الروم، فجعلت ساقه لا تزال تصاب -والمراد ساقة الجيش- فيكمن لهم الكمين فيصاب الكمين فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة -جمع برذون، والبرذون يطلق على غير العربي من الخيل والبغال، وهو عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء، قوي الأرجل، عظيم الحافر- فإذا براذين مربوطة نحو ثلاثين، والكنيسة إلى جانبهم -يعني: هؤلاء الفرسان هم الذين كانوا دائماً يصيبون ساقته في الكمائن- فنزل عن فرسه فربطه، وقد انفرد عن إخوانه المائة الذين كانوا معه، فلما رأى ثلاثين برذوناً عرف أن في الكنيسة ثلاثين فارساً، فدخل الكنيسة فأغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه -أي: كيف تصل به الشجاعة إلى أن يغلق الباب عليهم أجمعين، مع أنه واحد- فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع منهم ثلاثة، وفقده أصحابه في ذلك الوقت، فطلبوه، فوجدوا الفرس الخاص به مربوطاً إلى جوار تلك البراذين، فعرفوه، وسمعوا الجلبة والأصوات من داخل الكنيسة، فأتوها فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض الخشب من السقف ونزلوا عليهم، وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده قد أصابه هؤلاء الفرسان، وقد قتل منهم ثلاثة وبقي سبعة وعشرون، وظل يقاتل سبعة وعشرين وهو وحده، فجرحوا منه بطنه فانزلقت أمعاؤه، فأخذ يقاتلهم وهو ممسك الأمعاء بيده حتى لا تسقط، ونزلوا عليهم وبسر ممسك طائفة من أمعائه بيده، والسيف بيده اليمنى، فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشياً عليه، فأقبلوا على أولئك فأسروا وقتلوا، فأقبلت الأسارى فقالوا: ننشدكم الله، من هذا؟ قالوا: بسر بن أبي أرطأة.
فقالوا: والله ما ولدت النساء مثله.
فعمدوا إلى أمعائه فردوها إلى جوفه، ولم ينخرط منها شيء، ثم ربطوه بعمائمهم وحملوه، ثم خاطوه فسلم وعوفي رحمه الله تعالى.