والإمام ابن الجوزي هو تلميذ ابن عقيل، يقول سبطه أبو المظفر عنه: سمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بأصبعي هاتين ألفي مجلد، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني- وهذا من التحدث بالنعم-، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت من نظري فيها من ملاحظتي سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعبادتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت استزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد! يعني أنه قرأ وهو يطلب العلم في مرحلة الطلب فقط عشرين ألف مجلد، ولو قلنا: إن المجلد ثلاثمائة صفحة لكان ما قرأه هو ستة ملايين صفحة، قرأها وهو في مرحلة طلب العلم رحمه الله تعالى.
فما مقدار ما كتب وما صنف الإمام ابن الجوزي؟! يقول الإمام ابن تيمية: كان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي مفتياً كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك له ما لم أر.
ويقول الحافظ الذهبي: وما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل، ولم يدع ابن الجوزي فناً من الفنون إلا وصنف فيه، منها ما هو عشرون مجلداً، ومنها ما هو في رسالة صغيرة.
فكيف اجتمع له هذا كله؟
صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يجتمع له هذا إلا إذا كان بجانب علو الهمة عنده محافظة على الوقت، ومحافظة على رأس المال الذي هو الوقت.
يقول الموفق عبد اللطيف: إنه كان لا يضيع من زمانه شيئاً.
ويقول ابن الجوزي وهو يحدث عن سياسته في عدم تضييع الوقت، وحماية الوقت ممن يعتدون عليه: لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة -أي أنه خدمة ومحبة لهذا العالم- ويطلبون الجلوس، وينزلون فيه أحاديث الناس وما لا يعنيهم، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض.
فـ ابن الجوزي يحكي عن موضوع الزيارات في الأعياد، وينظر إلى أن هذه الزيارات تضييع للوقت، فالشخص له أن يهنئ إخوانه في العيد، أما كثرة الزيارة مع كثرة الإخوان والأحباب وكذا فلا تنبغي، ونحن الآن ضاعفنا أيام العيد، فعيد الفطر هو يوم واحد، وأما الآن فصار ثلاثة أيام، فمن أين صار عيد الفطر ثلاثة أيام؟! إنه لا بأس بأن يكون عيد الأضحى خمسة أيام: يوم عرفة ويوم الأضحى وأيام التشريق، لكن من أين أتينا لعيد الفطر بهذه الثلاثة أيام؟! وأين الدليل عليها؟! ليس إلا حب البطالة، وتضييع الوقت، والتهريج، والإجازات، فبين كل عيد وعيد إجازة، والناس مع ذلك تتأذى، فلماذا تضييع الوقت؟! وكأن الوقت ليس له قيمة، وللأسف الشديد أن الشعب الياباني في وقت من الأوقات عمل تظاهرات ضد الحكومة لأنها أعطتهم إجازات زائدة، فبسبب أنهم أعطوا إجازات عملوا تظاهرات، فانظر إلى عباد الدنيا من هؤلاء الوثنين الذين يعبدون الدنيا كيف يتظاهرون لأجل إلغاء الإجازات؛ لأنهم يستمتعون بالعمل وبالكدح في طلب الدنيا، فكيف تكون غيرة طالب العلم على وقته ممن لا يقدر هذا الوقت حق قدره؟! يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.
يقول: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لمواضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي أي: يهرب بقدر المستطاع من اللقاء، كما حكى بعض العلماء عن السلف فقال: إن العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شغلوا، فإذا شغلوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا، فمن ثمَّ يقول الإمام ابن الجوزي: فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة.
أي: ترك وظائف معينة لم يعملها في بيته، فإذا حصلت زيارة من هذه الزيارات التي تضيع الوقت في الكلام الذي لا يفيد فقد خصص هذا الوقت للأفعال التي تحتاج وقتاً ولا تحتاج إلى تركيز ذهني، فلذلك يقول: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد -أي: تقطيع الأوراق- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.