فحديثنا -بإذن الله تعالى- عن حرص السلف -رحمهم الله- على الحضور في مجالس العلم والمثابرة على ذلك، فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة أن ألقى في قلوب سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى الشغف بالعلم، والحرص على مجالسه، ليحفظوا به دينهم، وليكونوا أسوة لمن بعدهم، فمن ثمّ تبوءوا مناصب الإمامة في الدين.
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يزدحمون على مجالس العلم، حتى قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد.
يعني أن من أراد أن يحجز مكاناً أو موضعاً في مكان الدرس ليوم الجمعة -مثلاً- فإنه يبقى في المسجد من عصر الخميس، ويظل مرابطاً في مكانه إلى اليوم التالي؛ لأن الدرس سيكون في اليوم الثاني بعد العصر؛ لأنه قبل ذلك لا يجد مكاناً، وهذا من شدة حرصهم وتزاحمهم على الحضور في مجالس العلم.
يقول: كنا ندخل المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة أن لا نلحق من الغد موضعاً نسمع فيه.
يقول جعفر بن درستويه: ورأيت شيخاً في المجلس يبول في طيلسانه ويدرج الطيلاسان حتى فرغ، مخافة أن يؤخذ مكانه إن قام للبول.
وقال يحيى بن حسان: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محل شيخ ضعيف فانتهبوه.
أي: من شدة حرصهم على طلب العلم، وهم شباب أقوياء وهو رجل ضعيف ظلوا يزيحونه حتى انتهبوا منه مكانه الذي يجلس فيه، ودقوا يد الشيخ، فجعل الشيخ يصيح.
وكان طبعاً الإمام سفيان بن عيينة يحدث، والمكان فسيح جداً، والزحام شديد للغاية، فجعل هذا الشيخ يصيح، ويقول لـ سفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل.
يعني: أنا لا أسامحك -يا سفيان - مما عملوا بي؛ لأنه حصل بسبب حرصهم على هذا الدرس، فأنت المسئول عن أن تنصفني من الظلم الذي وقع عليَّ.
فجعل هذا الشيخ -ليلفت نظر سفيان بن عيينه إليه- يقول لـ سفيان: لا جعلتك مما عملوا بي في حل.
وذلك ليلفت نظر سفيان بن عيينة إليه وتبلغه ظلامته، وكان سفيان لا يسمع، حتى نظر سفيان بن عيينة إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا، فقال له: ما يقول الشيخ؟ فقال: يقول: زدنا في السماع.
وأظن أنه حصل في الرواية نوع من التأليف؛ لأنه ليس من اللائق بطالب العلم أن يكذب، ولا يمكن لطالب علم -وخاصة طالب علم الحديث- أن يكذب، فالله تعالى أعلم، وكأنه عرَّض على الإمام سفيان، أي: لما قال له: ما يقول الشيخ؟ قال له: زدنا في السماع.
ففهم ابن عيينة أن هذه مقولة الشيخ الضعيف؛ ولم يكذب هذا الذي رد عليه، وإنما قال له: زدنا في السماع.
ففهم ابن عيينة أنه يبلغه مقولة الشيخ، وهو في الحقيقة لا يبلغه مقولة الشيخ، وإنما يعرَّض بجوابه بأن قال له: زدنا في السماع.
والله تعالى أعلم.
وكان سبب موت الإمام هشيم رحمه الله تعالى ازدحام طلبة العلم عليه، كما قال الخطابي: ازدحم أصحاب الحديث على هشيم فطرحوه عن حماره، فكان هذا سبب موته.
وكان أبو بكر بن الخياط النحوي رحمه الله تعالى يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة؛ لأنه كان وهو يمشي في الطريق يستذكر الكتب.