وقد تجسد ذلك الموقف جلياً في موقف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى، وذلك في محنة القول بخلق القرآن، كما يحكي ابنه صالح هذه المواقف التي تجسد هذه المعاني، يقول صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليّ المعتصم وقال: ائتوني بغيرها.
ثم قال للجلادين: تقدموا.
أي أنه أتي بفريق من الجلادين ليجلدوا الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه لو كان الجلاد واحداً فقط فمع كثرة الضرب يصيبه الكلل والتعب، فكان الواحد منهم يضرب ويتأخر، ويأتي بديله، وهكذا كان فريق من الجلادين يتناوبون على تعذيب الإمام كي يجدد الواحد منهم نشاطه وهمته حينما يضربه في النوبة الجديدة.
يقول: ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شدّ قطع الله يدك -يعني: أضرب بأقصى قوة-.
ثم يتنحى، ويقوم الآخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك.
فلما ضربت تسعة عشر صوتاً قام إليّ -يعني المعتصم - وقال: يا أحمد! علامَ تقتل نفسك؟ إني -والله- عليك لشفيق! قال: فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه -أي: يضربه بقائمة السيف- ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟! أي: هل تريد أن تغلب المعتصم، وتغلب الجلادين، وتغلب كل من يخالفونك من هؤلاء الذين أمامك؟! وجعل بعضهم يقول: ويلك؛ الخليفة على رأسك قائم! أي: الخليفة واقف يحثك على أن ترجع عن مذهبك.
وقال بعض هؤلاء المنافقين الدجالين: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي، اقتله.
والواحد منا إذا أهين بسبب التزامه الآن في هذه الغربة التي نعيشها يرى ذلك عظيماً، وقد يوجد في بعض البلاد احترام شديد جداً للمتدين، فالمتدين في بعض البلاد ما زال -خارج مصر المحروسة- يحترم؛ لأنه متدين، وإذا كان طالب علم يعامل بمنتهى الاحترام، أما في كثير من الأماكن فإن التدين هو سبب محنة في الغالب لمن يلتزم بطاعة الله سبحانه وتعالى، فلا تنتظر أن تفرش لك الأرض بالورود، ولا تنتظر أن تعطى حقك؛ لأنك مستقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى، بل انتظر العكس، وإذا وقعت في شيء من ذلك وسخر منك الأطفال في الطرقات، ولقبوك بأسماء الذين يأتون في المسلسلات التي تحارب الدين فقالوا: فلان الإرهابي، وفلان القاتل، وفلان الذي يفعل كذا فاثبت، وهكذا إذا كانت الأخت محجبة، فإنها تنال نفس هذا الأذى، فإذا وجدت ذلك فقارن نفسك بالإمام أحمد رحمه الله، وانظر كيف أهين، وكيف أوذي، لكن كانت العاقبة -كما وعد الله- للتقوى، حيث قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فالإمام أحمد -وهو الإمام أحمد - انظر كيف اجتمع عليه هؤلاء المبتدعون والمنافقون! فبعضهم يقول: ويلك؛ الخليفة على رأسك قائم! والآخر يقول: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي اقتله! وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين! أنت صائم، وأنت في الشمس قائم.
قال الإمام أحمد: فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به! فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدم، وأوجع قطع الله يدك.
ثم قام الثانية، فجعل يقول: ويحك يا أحمد، أجبني.
فجعلوا يقبلون عليّ ويقولون: يا أحمد! إمامك على رأسك قائم! وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟! وجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج، حتى أطلق عنك بيدي.
يعني: اذكر كلاماً تعريضاً حتى أفرج عنك بيدي.
فقلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله.
فيرجع ويقول للجلادين: تقدموا.
فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك.
وأذكر أنه حصل في أحد المعتقلات مثل هذا، حيث كان في هذا المعتقل رجل إما لبناني أو سوري، فكان أحد الجلادين يعذب أحد الشباب تعذيباً شديداً، وكان هذا الرجل من نفس هذه الزمرة، فجعل يقول للجلاد وهو يضرب الأخ بأشد ما يمكن: الله يعطيك العافية.
يعني: حتى تضرب أكثر! فهم يتكررون في كل زمان.
يقول الإمام أحمد: فجعل المعتصم يقول: ويحك! أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي.
فقلت: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله.
فيرجع ويقول للجلادين: تقدموا.
فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك.
قال صالح: قال أبي: فذهب عقلي -أي: أغمي عليَّ- فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك لما أغمي عليك، وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك.
أي أنهم ظلوا يدوسون بأرجلهم على جسد الإمام أحمد وهو ملقى على وجهه رحمه الله.
قال صالح: قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ.
أي: من شدة الإعياء والجهد الذي حصل بالإمام رحمه الله تعالى أتوه بهذا السويق، وهو نوع من الحساء، وقالوا له: اشرب وتقيأ.
فقلت: لا أفطر.
أي أنه كان كل هذا العذاب والإمام رحمه الله صائم.
قال: فقلت: لا أفطر.
ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟! فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً، قال صالح: ثم خلي عنه، فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهراً، ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه.
فقال: يا ابن أخي! رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله! أنت صائم، وأنت في موضع تقية.
أي أن هذا الرجل كان يحث الإمام أحمد على أن يأخذ بالتقية وأن له رخصة، قال رحمه الله: ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولني.
فناوله قدحاً فيه ماء وثلج، فأخذه ونظر إليه هنية، ثم رده ولم يشرب، عزّ عليه أن يقطع صومه، ويفوت عليه ثواب الصيام، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وهو فيما هو فيه من الهول.
وعلق الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى على موقف الإمام أحمد رحمه الله قائلاً: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى، فبذلها، كما هانت على بلال نفسه.
وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب.
وهل الذباب حياته لها قيمة؟! ليس لها قيمة، فالذبابة هينة، فكذلك سعيد بن المسيب كان ينظر إلى روحه إذا بذلها في سبيل الله أنها أهون عليه من الذباب، وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب؛ لأنهم يعرفون الثمرة التي سيجنونها بعدما يضحون بأنفسهم في سبيل الله، فعيون البصائر ناظرة إلى المآل لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يبتلى المرء على حسب دينه) فسبحان من أيده وبصره وقواه ونصره! وهنا تعليق رائع للإمام المعاصر العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى يعلق على عدم ترخص الإمام أحمد رحمه الله في الأخذ بالتقية، فيقول: التقية إنما تجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس -أي: هؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة-، وأما أولوا العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى، ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم -لأنهم يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية- وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق.
أي: لأنهم لا يصدعون بما يؤمرون، وإنما يجاملون في دينهم وفي الحق، ولا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعاً أو خافوا منه ضراً في الحقير والجليل من أمر الدنيا، وكل أمر الدنيا حقير.
يقول: فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى، ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين فيما كتب إلى أبي رحمه الله -وهو العلامة الكبير الشيخ محمد شاكر رحمه الله الذي كان وكيل الأزهر- كتب له في جماد الأولى سنة (1337هـ) قال: كأن المسلمين لم يبلغهم من بداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري -وقد فهموا منها ما فهموا- كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال، وكيف يفهمون تعرضه صلى الله عليه وسلم لصنوف البلاء والإيذاء، ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله.
يعني أن الله سبحانه وتعالى وصف المتقين بأنهم: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177] أي: لابد من أن تمر بهم الضراء ويعانوا -أيضاً- البلاء.