وبقي مسألة أخرى وثيقة الصلة بموضوعنا، وإن كنا نتكلم على مرحلة الطفولة والتنقيب عن النابغين ورعايتهم والاهتمام المبكر بهم، وزراعة الهمة العالية في قلوبهم، ولكن لا ننس حظ الشباب، ولذا نذكر أنفسنا جميعاً بأهمية اغتنام فرصة الشباب؛ لأن الشباب ضيف عابر، وصيف زائر، سرعان ما سيولي، فلا ينخدع الإنسان بشبابه، لكن ينبغي أن يغتنمه؛ لأن الكثير من الناس الآن يسوغون لأنفسهم الانهماك في الطرب وفي اللعب وفي اللهو وفي الشهوات وغير ذلك من قتل الفراغ -كما يقولون- فيما لا طائل من ورائه، بل فيما هو ضار محض بحجة أن الواحد منهم ما زال شاباً، وكأن الإنسان لا يتمتع بشبابه إلا إذا عاث في الأرض فساداً! وحين تتحجب المرأة وهي شابة يقال لها: ما زلت شابة، وحين تكبرين تذهبين لتحجي أو لتعتمري، وبعد هذا تتحجبين! مع أن الشرع نظر بعكس هذا، فالشابة هي التي تتحجب، والعجوز القاعد التي لا فتنة من ورائها لا بأس بأن تكشف الوجه والكفين، كما في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، فإذا كان الإنسان لا يقبل على الله وهو شاب فمتى سيقبل على الله سبحانه وتعالى؟! لأن العمل الحقيقي هو في الشباب؛ لأن فترة الشباب فترة متميزة في حياة كل منا بسبب يسير جداً، وهو أن الشباب فترة قوة بين ضعفين، والذي يقدر على الإنجاز هو الشاب، وليس الطفل أو العجوز، فلا شك في أن فترة العمل والإنجاز وخدمة الإسلام هي فترة الشباب، فالشباب هو زمن العمل، وهو فترة قوة بين ضعف الشيوخه وضعف الطفولة، فمن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم)، وتأمل جيداً كلمة (اغتنم) أي أن الفرصة سانحة، وسرعان ما تفر منك، قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك).
وتأمل -أيضاً- هذه الكلمة للإمام أحمد، يقول الإمام أحمد: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط.
والكم هو الذي نسميه جيباً، فيبدو إنه يمثل الشباب بوضع شيء في جيب مثقوب، فحين وضعه في كمه سقط فوراً من أسفل الكم، فكذلك الشباب يمكث معك مثل هذه الفترة الوجيزة.
فالشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الرحيل، فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه بعد حسرات، كما يقول الشاعر: أماني كانت في الشباب لأهلها عِذاب فصارت في المشيب عذابا أي أنها كانت عذبة في أيام الشباب، فإذا أتى المشيب فإنه يذوق مرارتها.
ويقول آخر: ألم أقل للشباب في كنف الله وفي ستره غداة استقلا ضيف زارنا أقام إلى أن سود الصحف بالذنوب وولى يعني أنه يتحسر على الشباب ويقول: حينما غادرني شبابي وبدأ الشيب يزحف إلى رأسي ولحيتي مقت هذا الشباب، فلما ودعني الشباب لم أسلك معه المسلك الذي أسلكه مع الضيف الكريم أو الضيف الحبيب حينما يغادرني، فإنه لما غادرني لم أقل له: في كنف الله، ولا: في رعاية الله، ولا: في حفظ الله، كما تقول للضيف الحبيب إليك، لم أقل له ذلك نقمة عليه.
فمن ثمّ يسأل الله عز وجل كل عبد من عباده عن نعمة الشباب، فإن هناك أربعة أسئلة إجبارية يوم القيامة، ولا يمكن أن تزول قدما عبد من أمام ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة حتى يمتحن هذا الامتحان الصعب العسير، ولابد من أن يسأل هذه الأسئلة الأربعة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه).
ومع أن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر لأن له هذه الخصيصة التي ذكرناها، قال عليه الصلاة والسلام: (عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم).
وعد صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الشاب العابد، فقال عليه الصلاة والسلام: (وشاب نشأ في عبادة الله).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما آتى الله عز وجل علماً إلا شاباً، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]).
وقال تعالى في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإنما العمل في الشباب.
وقال الأحنف بن قيس: السؤدد مع السواد.
وكلمة السواد هنا يحتمل بها عدة معانٍ، لكن المعنى المناسب لموضوعنا أنها تحمل على سواد الشعر، والسؤدد: السيادة، يعني أن السؤدد مع الشباب قبل أن يبيض الشعر، وكأنه يقول: من لم يسد مع الحداثة لم يسد مع الشيخوخة.
وهذه قاعدة، ولها استثناءات، لكن القاعدة أن من لم يسد وهو شاب يفوته القطار، ولا تكون هناك فرصة في الشيخوخة؛ لأن الإنسان تتغير نفسيته، وتتغير قدراته البدنية، حتى النواحي العاطفية والوجدانية تتغير فيه، وتبدأ تميل كما تميل الشمس للغروب، فحين يتجاوز الإنسان مرحلة الشباب لم يبق له إلا أن ينتظر الموت، كما قال بعض السلف لصاحب له: كنا نطفة في أرحام أمهاتنا، فسقط منا من سقط، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك أطفالاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك صبية، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شباباً، فمات منا من مات، وبقينا نحن فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك كهولاً، فمات منا من مات، وبقينا فيمن بقي، ثم صرنا بعد ذلك شيوخاً، فأي شيء بقى بعد ذلك حتى ننتظره؟! أو كما قال رحمه الله.
أي: إذا كان الواحد قد وصل إلى هذه السن وما تاب وما أناب إلى الله سبحانه وتعالى فماذا ينتظر؟! فمن المقطوع به أنه سيأتيه الموت، كما أتى من عداه.
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.