الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين، وسيد المرسلين في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
مازلنا نتحدث عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا جميعاً، وقلت: إن من أعظم الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم علينا: أن نحبه، وحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم دين لا يكتمل إيمان المرء إلا به، ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله -أن يكون الحب في الله، وأن يكون البغض في الله- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) .
بل لا يكتمل إيمان المرء إلا إذا كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حبه لوالديه، وولده، بل ولنفسه التي بين جنبيه؛ ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين) .
(لا يؤمن أحدكم) ، أي: لا يكمل إيمانه.
وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قال يوماً للحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي) .
انظر إلى هذه المصداقية العالية، يقول له: أنا أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي: (لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك؛ فقال عمر: والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي يا رسول الله) .
أود أن أقف هنا وقفة لطيفة؛ لأبين مفهوم هذا الحديث، عمر رضوان الله عليه يقول: أنا أحبك؛ لكن ليس أكثر من نفسي، ثم بعد قليل، قال له: أنا أحبك أكثر من نفسي! ماذا حصل؟! يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى في تعليق بديع، وفهم جليل دقيق لهذا الحديث: حب الإنسان لنفسه طبع -يعني: كل واحد جبل على أن يحب نفسه- وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب.
أي: لا أحبك، ولا تحبني، إلا إذا كانت بيننا أسباب، أعرفك، وتعرفني في التعامل، في الود، في الخلق، أما إذا كنت لا أعرف لك اسماً، ولا رقماً، فكيف أحبك، أو كيف أبغضك؟! قال: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب -انظر ماذا يقول! - وما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر حب الطبع؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جبلت عليه، وإنما طلب منه النبي حب الاختيار، فلما نظر عمر في توسط الأسباب -أي: في حب الاختيار- علم أن النبي كان سبب نجاته من النار؛ وحينئذٍ قال: (والله لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي يا رسول الله) .