الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هي من القصص التي لها علاقة بما يزيد الإيمان، وهو زيارة المقابر.
وسنتعرض إن شاء الله بعد هذه القصة لبعض أحكام وآداب زيارة المقابر.
والقصة: قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما: عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً: (ألا أحدثكم عني وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدته، قال: قالت عائشة -وهي أمه لأنها أم المؤمنين، وهي كذلك أمنا جميعاً- قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوَضَع رداءه) انقلب، أي: رجع إلى بيته من صلاة العشاء، وكان عادتهم النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، فلا سمر عندهم إلا في حالات خاصة، وكانوا يؤخرون العشاء كما هي السنة، ثم ينامون بعدها استعداداً لقيام الليل؛ هكذا كان المجتمع الأول في استعداده لقيام الليل.
(انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه -صلى الله عليه وسلم- وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رَقَدْتُ -في رواية أحمد، أي: لبث عليه الصلاة والسلام على فراشه فترة ظن أن عائشة قد نامت واستغرقت في النوم- فأخذ رداءه رويداً -أي: برفق لئلا يزعجها- وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً -أي: أغلقه وراءه- فجعلتُ درعي في رأسي واختمرتُ، وتقنعتُ إزاري -لبِسَتْ إزارها واستترت- ثم انطلقتُ على إثره) أي: تَبِعْتُه، خرجت من باب البيت وتَبِعَتْه خفية وهو لا يدري صلى الله عليه وسلم، (حتى جاء البقيع)، وهو: بقيع الغرقد؛ مقبرة المسلمين بـ المدينة، سُمِّي بـ بقيع الغرقد لغرقد كان فيه، وهو ما عَظُمَ من نبات العوسج.
(فقام عليه الصلاة والسلام عند المقبرة فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفتُ، وأسرع فأسرعتُ، فهرول فهرولتُ، فأحضر فأحضرتُ، فسبقته فدخلتُ).
ومعنى الإسراع والهرولة واضح.
وأما أحضر: فمن الإحضار، وهو العدو، فكأنه أسرع ثم زاد سرعته؛ ولكن عائشة سبقته في الظلام، فدخلت الحجرة قبل أن يدخلها عليه الصلاة والسلام.
(فأَحْضَر فأحضرتُ، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ، فدخل صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكِ يا عائش حشيا رابية؟!) رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدر عائشة متهيجاً، يسرع في الارتفاع والانخفاض، والنفس متزايد عندها، فسألها قال: (ما لكِ يا عائش حشياً رابيةً) ما لكِ حشيا، الحشا، وهو: الربو والتهيج الذي يحدث للمسرع في مشيه من ارتفاع النفَس وتواتره، رابية: مرتفعة البطن؛ يعني: هذا الذي يحدث لمن أسرع، أو هرول، أو جرى.
قالت: (قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لَتُخْبِرِنِّي أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني) -واللهز هو: الضرب بجمع الكف في الصدر- (وقال عليه الصلاة والسلام: أظَنَنْتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) هذه اللهزة الشديدة كانت تأديباً من النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة من سوء الظن.
وذلك أنها أساءت الظن، وخافت أن يكون قد ذهب في ليلتها إلى زوجةٍ أخرى، ولذلك خرجت وراءه، وكانت عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم شديدة الغيرة جداً، فلما رأته خرج من بيتها في ليلتها خشيَت أن سيذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها، فلَهَزَها في صدرها لهزةً أوجعتها، وقال: (أظننتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) أظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يظلمك ويذهب في ليلتك إلى امرأة أخرى من زوجاته، وهو أعدل الناس؟! الإنسان إذا كان عند زوجة في ليلة فلا يذهب إلى غيرها، لأن لكل واحدة قسماً.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل ذلك دون أمر من الله، لا يمكن أن يذهب إلى امرأة أخرى في ليلة واحدة، إلا بأمر من الله، قالت عائشة رضي الله عنها: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم).
فـ النووي رحمه الله ذكر في شرح الحديث: أنها قالت هذا وقررته: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم) يعني: نعم كذلك، أنه مهما كتم الواحد شيئاً فالله يعلمه.
قال: (نعم.
وفي رواية: قال: نعم، فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منكِ، فأجبتُه فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أنكِ قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي) -يعني: إذا تركتُ البيت وأنتِ مستيقظة؛ وخرجتُ بقيت في وحشة في الظلمة، فما أحببت أن أوقظكِ لئلا تبقي في وحشة، وظننتُ أنكِ قد نمتِ فخرجتُ.
ماذا قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إن ربك جلَّ وعز يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله لو أنا ذهبتُ؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله لَلاحقون).