الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن إسلام صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو: أبو ذر الغِفاري رضي الله تعالى عنه.
يقول ابن عباس >كما روى البخاري في صحيحه: لما بلغ أبا ذرٍ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردته.
فتزود وحمل شنةً له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فرآه عليٌ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت؟ ففعل، فأخبره قال: فإنه حقٌ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل.
فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا عليه فأكب العباس عليه.
هذا الصحابي الجليل: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، وغفار من كنانة، فهو أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه.
هذا الصحابي روى قصة إسلامه ابن عباس، قال لأصحابه يوماً: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى.
قال: قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار -أي: ابن عباس سمع قصة إسلام أبي ذر من أبي ذر.
وقد وردت قصة مشابهة تبين بتفصيلٍ أكثر، كيف بدأت رحلة البحث عن الحق عند أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهذه القصة رواها مسلم رحمه الله في صحيحه: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أُنيس وأمّنا، فنزلنا على خالٍ لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أُنيس.
أي: اتهموه في عرضه بزوجته مع هذا الرجل الذي هو ابن أخته، فذكر ذلك لنا.
أي: قال: أنت تذهب إلى زوجتي في غيابي وتدخل عليها، فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -نحن ناس ضيوف نزلنا عليك جئت أنت الآن وسمعت كلاماً من الخارج أن صاحبنا وأخانا هذا يدخل على زوجتك في غيابك، ما عدنا نريد البقاء عندك- أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -أي: كدرته بهذا الاتهام- فتحملنا عليه وجلس يبكي -أي: كأنه ندم على الاتهام الباطل- فانطلقنا نحو مكة فنافر أخي أُنيس رجلاً إلى الكاهن، فخير أُنيساً فأتانا بصرمتها ومثلها معها -أي: حصل رهان بينهما عند الكاهن وطلع الحظ والنصيب لأخي أبي ذر، وجاء بطعام زيادة، قال أبو ذر: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
قلت: لمن تصلي؟ -لمن كنت تصلي في الجاهلية قبل أن ترى النبي عليه الصلاة والسلام- قال: لله، قال: فأين توجهت؟ -أي: لا إسلام ولا معرفة بالقبلة ولا بالكعبة فأين تتوجه؟ - قال: حيث يوجهني ربي، قال: فقال لي أُنيس: إن لي حاجةً بـ مكة، فانطلق ثم جاء فقال: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بـ مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس -أي: جماعته وقبيلته الذين حوله ماذا يقولون عنه؟ - قال: يقولون: شاعرٌ، كاهن، ساحر -وكان أُنيس شاعراً- ولقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم -يقول لـ أبي ذر: والله سمعت كلام الكهان، وسمعت كلامه ليس بكاهن- ووضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم عليها، والله إنه لصادق.
فلعل أبا ذرٍ رضي الله عنه كان أراد من أخيه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره، فأرسل أخاه إلى مكة لكن أخاه ما جاء له إلا بشيءٍ مجمل، ما جاء بالتفاصيل الذي تشبع أبا ذر، فلذلك انطلق الأخ الآخر، أرسل أخاً آخر إلى مكة، حتى يأتيه بأخبارٍ أخرى، ولكن الذي رجع به هو أيضاً قوله: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، أيضاً لم يشفِ غليل أبي ذر.
قرر أبو ذر رضي الله عنه أن يذهب بنفسه، ذهب إلى مكة، لكنه يعرف أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام يعادونه فكيف يسألهم عنه ويقول: دلوني على محمد؟ يمكن أن يضربوه أو يضللوه، ولذلك من ذكاء أبي ذر رضي الله عنه أنه دخل مكة دون أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً، مع أنه جاء لهذه الحاجة الوحيدة.
أبو ذر كان رجلاً سليم الفطرة يبحث عن الحق، أرسل أخاه مرة أو مرتين وما جاء بأخبار كافية، ذهب هو بنفسه لاستقصاء الأخبار، وكان رضي الله عنه فطناً، ففكر أنه لو سألهم عن النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يؤذوه، أو يؤذوا النبي عليه الصلاة والسلام بسبب من يقصده من خارج مكة، أو أنهم لا يدلون أبا ذر على مكان النبي عليه الصلاة والسلام ويضللونه، أو يمنعونه من الاجتماع به ويحولون بينه وبينه.