ثم يوجد تفاوت في النار؛ فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذه كله إلا مواضع السجود؛ لذلك جاء في حديث الشفاعة أن الملائكة حينما يدخلون النار من أجل أن يخرجوا من مات على التوحيد إنما يعرفونهم ويميزونهم بمواضع السجود، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود)، فيا خيبة ويا حسرة تاركي الصلاة الذين تخلو وجوههم من علامات السجود! ولا نعني بذلك العلامة المعروفة التي -كما يقول بعض السلف-: قد تكون بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، فإنه يسهل أن يطرح هذه العلامة بطرق شتى، لكن العبرة بما ذكره الله عز وجل في قوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، فالعبرة بالخشوع والتواضع والسكينة، وهذا دليل استدل به من كفر تارك الصلاة كفراً أكبر، وقال: لا حظ لمن لا يصلي في هذا الأمر؛ لأن الملائكة إنما تخرج من كان يصلي، فاستدلوا بذلك على كفر تارك الصلاة، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك بالتفصيل.
كذلك الناس يتفاوتون في مقدار لبثهم فيها، وسرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا مع الكافرين خالدين مخلدين أبداً، فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن برة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان)، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه يضيء تارة وينطفئ أخرى؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]؟ في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، فهذا أيضاً دليل على التفاوت.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ذكره البخاري تعليقاً مجزوماً به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يمدح عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فكلمة: (أضعف)، تدل على أن الدرجة الوسطى أوسط، والدرجة الأولى هي أقوى الإيمان، فدل على ضعف وقوة في الإيمان، وكذا زيادته ونقصانه وتفاوت وتفاضل أهله فيه، بخلاف قول المرجئة ومن وافقهم في أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه، بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، فبالتالي يترتب على كلامهم: أن إيمان جبرائيل وإسرافيل وميكائيل والملائكة وحملة العرش مثل إيمان أدنى واحد من المؤمنين، فإيمان هؤلاء الذين يعاينون الغيب مثل إيمان أقل واحد من المسلمين، فأين قائل هذا من هذه النصوص الواضحة التي تبطل هذا المذهب الفاسد؟! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان أهل الأرض لرجح.