كلام الآجري في الاستثناء في الإيمان

هناك قضية أقحمت إقحاماً في قضايا الكفر والإيمان، وهي: الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا قيل لك: هل أنت مؤمن، فبماذا تجيب؟ هل تقول: نعم أنا مؤمن، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو ماذا تقول؟ فهذه القضية وإن كانت ليست من صلب قضايا الإيمان لكن لها تعلق بما سبق أن ذكرناه في قضية الإيمان ومركبات الإيمان.

ونعرض أولاً لقول الإمام أبي بكر الآجري رحمه الله تعالى في كتاب الشريعة حيث قال: باب ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه.

يعني: أنه يجوز أن تستثني في الإيمان دون أن تقصد بهذا الاستثناء الشك، فإذا قيل لك: هل أنت مؤمن؟ فلك أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا تقصد بكلمة: (إن شاء الله) الشك والريب؛ لأن الريب ينافي الإيمان كما ذكرنا من قبل في شروط لا إله إلا الله، فمن شروطها: اليقين المنافي للشك، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، فلا يجوز الشك في الإيمان، فالذي يعتمده الإمام الآجري رحمه الله: أنه يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، بدون أن تقصد من كلمة: (إن شاء الله) الشك في الإيمان، فمن صفة أهل الحق كما يقول الآجري: الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك، ولكن من أجل خوف التزكية للنفس بالاستكمال للإيمان، فالإنسان لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، فيقول: نعم أنا مؤمن، أو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله دون أن يقصد بذلك تزكية نفسه.

وقد ذكرنا من قبل: أن الإيمان يتركب من تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح بما فيها اللسان، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا الاستثناء لا يمكن أبداً أن يدخل في تصديق القلب ولا في قول اللسان، وإنما يكون الاستثناء فيما يتعلق بعمل الجوارح الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، فلا يمكن أبداً أن يصح الإيمان من رجل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقصد التصديق بالقلب، فهذا لا يدخله استثناء، بل لابد فيه من اليقين الراسخ المنافي تماماً للريب وللشك.

وكذلك لا يمكن أن تكون قاصداً بقولك: (إن شاء الله) النطق باللسان، لكن قولك أنا مؤمن إن شاء الله، يكون فيما يتعلق بالجزء الثالث وهو عمل الجوارح.

هذا هو الذي يصح أن تستثني فيه.

والناس عند السلف على الظاهر مؤمنون يتوارثون ويتناكحون؛ لأن ظاهر الناس في حياتهم في المجتمع الإسلامي أنهم مؤمنون مسلمون، وبهذا الإيمان يتوارثون، وإلا لو لم يكونوا مؤمنين لما ترتب على ذلك حصول الميراث بين المسلم وقريبه المسلم.

وبه يتناكحون أيضاً وهكذا يتم التناكح على أساس الحكم بالإيمان، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه وحسب ما بينه العلماء من قبل، إنما ينصرف إلى الأعمال التي توجب حقيقة الإيمان، وليس المقصود بالاستثناء ما في القلب، ولا الذي هو قول باللسان، إنما الاستثناء يكون في أعمال الجوارح، وهو عبارة عن مخافة واحتياط فقط، ولا يمكن أبداً أن يكون على الشك؛ نعوذ بالله من الشك في الإيمان.

أما الأدلة على أن الاستثناء يكون بغير شك فمنها: قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]، فهل يمكن أن نقول: إن كلمة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، هنا على الشك؟

صلى الله عليه وسلم هذا لا يمكن؛ لأن هذه بشارة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فالله علم أنهم داخلون الحرم الشريف آمنين، فهذا دليل على أن الاستثناء يكون بغير شك، وليس شرطاً أن تنصرف كلمة: (إن شاء الله) إلى الشك كما في هذه الآية.

كذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقبرة ودعا للمؤمنين ختم دعاءه بقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، فهل هذا على الشك؟ الجواب: كلا، بل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل)، وهذا أيضاً ليس على سبيل الشك، ولكنه عبر عنه بقوله: (إني لأرجو).

وروي أن رجلاً قال عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فلما سمعه ابن مسعود يقول: أنا مؤمن، قال: أفأنت من أهل الجنة؟ قال الرجل: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ أي: كما أنك لم تجزم في الأخيرة بأنك من أهل الجنة، ووكلت ذلك إلى علم الله، كذلك في الدنيا أيضاً لا تزكي نفسك، ولا تجزم بأنك مستحق للجنة.

أيضاً: في سؤال الملكين في القبر جاء في الحديث أنهما يقولان للمؤمن: (على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)؛ فإن كان هذا المؤمن مات على اليقين وعلى الإيمان، فلا يمكن أن يكون المقصود من قول الملكين: (إن شاء الله) الشك؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فهذا نص على أنه مات على اليقين، ويقال للكافر: (على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)، فقالا: إن شاء الله، لا على سبيل الشك.

وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله - يعني: الإمام أحمد رحمه الله يعجبه الاستثناء في الإيمان.

أي: يعجبه أن الرجل إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فقال له رجل: إنما الناس رجلان: مؤمن وكافر؟ فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]؟ يعني: ماذا تقول في هذا؟ وهذه الآية في سورة التوبة في بعض المؤمنين كما هو معلوم.

وقال الفضل: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء.

يعني: ما أدركت أحداً من الأئمة السابقين من أئمة السلف إلا على الاستثناء في الإيمان، وكأن أحدهم كان إذا سئل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

قال الأوزاعي في الرجل سئل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي سألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله عز وجل علمه في ذلك، حين يزعم أن علمه وعلم الله عز وجل في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعد ما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فأشربتها قلوب طوائف منهم، واستحْلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف، ولست بيائس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً دون أسلافكم؛ فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله عز وجل وبعثه فيهم، فوصفه بهم فقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].

هذا كلام الأوزاعي رحمه الله، وهو يدل على أن هذا السؤال من الأشياء المحدثة، ونحن نقر بذلك، وأنه لم يكن من أدب الصحابة ولا سلوكهم أن يسألوا مثل هذه الأسئلة، وإنما أراد من اخترع هذا السؤال أن ينازع في علم الله تبارك وتعالى، وأن يثبت بأن علمه فيك مثل علم الله فيك، فينكر عليك إذا قلت: إن شاء الله؛ لأنه يريد أن تقول له: أنا مؤمن؛ حتى توافقه على ذلك، ويقول: أنا أعلم منك أنك مؤمن، وأنت حينما تقول: إن شاء الله، هي إحالة إلى علم الله تبارك وتعالى، وهو يريد أن يساوي بين علمه هو وعلم الله عز وجل فيك.

وقيل لـ سفيان بن عيينة: الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: قل: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة.

يعني: لا أشك لا في تصديقي بالقلب، ولا في نطقي باللسان.

فهذا أيضاً نوع من محاصرة السائل بحيث يفوت عليه مقصده، ثم قال: وتقول: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد أي: يمكن أن تجيب هذا السائل الذي يسألك: أأنت مؤمن؟ -فتقول له: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، أمقبول عملي أم لا.

وعن ابن خليفة قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

فجمعت هنا بين التصديق بالقلب، وبين النطق باللسان، وفوّتَّ عليه الكلام في الجزء الثالث؛ ولذلك لم تحتج هنا إلى الاستثناء.

وعن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136] إلى آخر الآية.

الشاهد: أنك تتلو عليه هذه الآية؛ لأن الله أمرك بأن تقولها: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136] فحينما تقول: آمنت بالله، وبما جاء من عند الله، أفضل من أن تقول: أنا مؤمن.

وتسكت، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتعني أنك إن شاء الله لست شاكاً في إيمانك.

وعن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015