ذكرنا أيضاً مذاهب المنحرفين في مسألة دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقلنا: إن منهم من يقول: إن الإيمان مجرد التصديق فقط، ومنهم من يقول: الإيمان مجرد المعرفة بالله فقط، وذكرنا مذهب المرجئة والكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، إلى آخر الأمثلة التي ذكرناها من أهل البدع والضلال في هذا، لكن نقف وقفة يسيرة عند مذهب المرجئة.
يقول الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه.
يشير إلى أهل الإرجاء، وسئل إبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه -أوه اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر أو أتوجع- لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم! وقال إبراهيم: المرجئة أخوف عندي على الإسلام من الأزارقة، المرجئة أخوف عندي على الإسلام إذا كان هناك عدد يوازيهم من الأزارقة -والأزارقة: فرقة من فرق الخوارج- فالمرجئة يكونون أشد خطراً منهم.
وقال أيوب: قال لي سعيد بن جبير: رأيتك مع طلق! قلت: بلى، فما له؟! قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك.
ويحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه، وهذا موقف من مواقف السلف في البراءة من أهل البدع ومجانبتهم، فضلاً عن الجلوس معهم.
وكان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وذكر عند الضحاك بن مزاحم قول من قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، يعني: بعض المرجئة يستدلون بمثل هذه النصوص على أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون عقد القلب، فقال الضحاك بن مزاحم: هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض، لكن بعدما حدت الحدود، ونزلت الفرائض صارت هذه داخلة في مسمى الإيمان الذي ينجي صاحبه، فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد إلى آخره، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا، ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: أن الله عز وجل أمرهم أولاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ثم بعد ما امتثلوا لذلك، واستقر الإيمان في قلوبهم أمرهم بالشرائع بالصلاة والصيام والزكاة والحج، هل يأمرهم لمجرد الأمر فقط أم أن هذا الأمر مطلوب منهم الامتثال له؟ إذاً: الله عز وجل يريد منهم الامتثال والعمل، وتطبيق الأوامر التي أمرهم بها، فهؤلاء المرجئة مقتضى كلامهم أن الله أمرهم بهذه الأعمال ولم يلزمهم أن يعملوها، وهذا فيه مخالفة لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبعد أن صدق المؤمنون في إيمانهم أمرهم الله بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض والحدود، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول فقط، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، فقد خالف الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، معنى كلمة (َأَتْمَمْتُ): أنه كان ينزل شيئاً بعد شيء حتى اكتمل الدين في هذه الصورة النهائية، وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).
فجمع إلى الشهادتين في نفس القوة أركان البناء، وأعمدة الإسلام الأربعة الأخرى غير الشهادتين، ولا شك أنها أعمدة يقوم بها الدين، فمن ضيعها فقد ضيع الدين.
أما من قال: إن الإيمان مجرد المعرفة، والتصديق بأن هناك إلهاً وأن الله موجود فيلزمه أن إبليس مؤمن.
ويتصور الناس أن الملحد هو الذي يقول: لا إله، فهذا غير صحيح؛ لا من حيث الشرع، ولا من حيث اللغة، فالإلحاد: هو الميل عن القصد، فأي شخص منحرف في عقيدته أو سلوكه يوصف بالإلحاد.
فيلزم مما يزعمونه من أن الإيمان هو مجرد المعرفة: أن إبليس كان مؤمناً؛ لأنه كان يقر بوجود الله، وعرف ربه تبارك وتعالى؛ لأنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، وقال: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، كذلك يلزم من ذلك أن اليهود مؤمنون، فإن الله تبارك وتعالى قال في حقهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وقال تبارك وتعالى أيضاً: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
ثم أليس الفرق بين الإسلام والكفر هو العمل؟! أما مذهب أهل الإرجاء واعتقادهم أن الإيمان هو مجرد الإقرار باللسان أو المعرفة، فيترتب على ذلك أن المرجئ يعتقد ما يأتي: أولاً: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.
ثانياً: أنه مؤمن عند الله حقيقة.
ثالثاً: أنه مؤمن مستكمل الإيمان.
رابعاً: أنه مؤمن حقاً.
ولا يقولون بتفاضل أهل الإيمان فيه؛ لأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يكون الرجل أقوى إيماناً من الآخر، بل إيمان أقل واحد من المسلمين مثل إيمان جبريل وميكائيل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك يقولون: الشخص المدمن للخمر الذي لا يصحو من الخمر والسكر إيمانه تماماً مثل إيمان جبريل وميكائيل.
كذلك يقولون: من قال: لا إله إلا الله، لم تضره الكبائر أن يعملها.
فيقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة كذلك لا تضر مع الإيمان معصية، والإيمان في نظرهم هو مجرد الإقرار أو المعرفة، فيقولون: من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن المرجئ البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً والفاجر يكونان سواءً.
وهذا واضح مصادمته للقرآن، فهو من المنكرات العظيمة، يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، هذه الآية يسميها السلف: مبكاة العابدين؛ لأنها كانت تبكي العابدين كثيراً، وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وتتفاضل الطائفتان من المؤمنين في الأعمال الصالحة درجات، ونفس أهل الإيمان هم أنفسهم درجات، كما قال الله عز وجل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163].
إذا كان أهل الإيمان أنفسهم فيما بينهم متفاوتون فما بالك بأهل الطاعة والمعصية الذين يكون التمايز بينهم أشد؟! فأهل الإيمان أنفسهم متفاوتون في هذه الصلاة، ولعلهم جميعاً واقفون في صف واحد، وفي مسجد واحد، وراء إمام واحد، وذلك لتفاوت أحوال قلوبهم، يقول الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10].
فهذا مجمل ما يئول إليه كلام المرجئة.