قوله: (الإسلام) أي: مفصل من مجمل المراتب، وهو بدل بعض من كل.
الاسلام والإيمان والإحسان والكل مبني على أركان هذه هي المرتبة الأولى كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة حينما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام.
نأتي أولاً بالمعنى اللغوي ثم بالمعنى الاصطلاحي، فالإسلام لغة: الانقياد والإذعان.
وأما في الشريعة فله حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، هنا أتى الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان، فيشمل كل أمور الدين، الباطن والظاهر والأقوال والأعمال والاعتقادات، وكل شيء يدخل تحت مسمى الدين يدخل في كلمة الإسلام؛ لأنها أتت مفردة مطلقة دون أن ترتبط بلفظ الإيمان في وقت واحد: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ومثلها: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فيشمل هنا كل أمور الدين، وقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، السلم هنا المقصود به الإسلام، أي: التزموا بجميع أمور الدين والإسلام سواء الاعتقادات أو الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة.
وهذه الآية من أقوى الأدلة التي نرمي بها في نحور الذين يقسمون الدين إلى أمور نظرية، ويفترون على الله حينما يسمونها تافهة ويسخرون منها وهي من أركان الإيمان؛ لأن قوله: (كافة) يعني: جميع ما يتعلق بالإسلام من الأقوال والأعمال والنيات والأحوال وغير ذلك، هذا كله مأمور بالدخول فيه سواء في ذلك العقيدة أو الفقه والعمل.
إذاً: في هذه الآية دليل ضد الذين يسخرون من أمور الفقه أو العلم، ويسخرون في ذلك من طلاب العلم، ويقولون: متى تخرجون من فقه دورة المياه؟ يسخرون من فقه الطهارة، ويسخرون من بعض العلماء أو طلاب العلم، ويقولون: علماء الحيض والنفاس، ولا يدرون أنهم بذلك يهلكون؛ لأن هذه تدخل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، لا يسمى أبداً شيء من أمر الدين أو أمر به النبي عليه الصلاة والسلام أو أقره لا يمكن أن يسمى تافهاً أو سخيفاً، إنما يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) معالي الأمور مقاصد الدين، أما السفساف فهي أمور الدنيا الحقيرة؛ لكن أن تعمد إلى قضية من قضايا الدين وتسخر منها أو تقول: هذه قشور أو أمور شكلية أو مظاهر لا حاجة لنا بها، فهذا كله إعراض عن المقصود الشامل من قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، أي: في كل ما يتعلق بالدين والإسلام.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله معاوية بن حيدة: (ما الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله)، إلى آخر الحديث، وحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟)، الحديث فهنا يعتبر كدليل على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت مفردة غير مقترنة بلفظ الإيمان فإنها تشمل كل أمور الإسلام، وكل أمور الدين، والظاهر والباطن وغير ذلك.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله عز وجل) يدخل فيه عمل القلب وقوله: (وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) هذا فيه عمل الجوارح واللسان.
وقوله: (قال: فأي الإسلام أفضل؟) إذاً: الإسلام كلمة عامة، ثم يسأل عن أفضل ما يدخل في هذه الكلمة الشاملة الإسلام، قال: (فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ففي هذا الحديث أطلقت كلمة الإسلام ويدخل في معناها أيضاً الإيمان بهذا النص، (قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)، فهذا دليل واضح على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت وأفردت دون أن تقيد بالإيمان تشمل الظاهر والباطن.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان جزءاً من الإسلام وهو أفضله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها)، فالانقياد ظاهراً بدون إيمان لا يكون حسن إسلام، بل هو النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ فقوله هنا: (حسن إسلامه) يشمل كل أمور الإسلام باطناً وظاهراً، أي: حسن باطنه وظاهره، أما إذا حسن الظاهر فقط فهذا شأن المنافقين الذين كانوا يخرجون مع المسلمين في الجهاد، وكانوا يصومون ويصلون الجماعة ويحجون ويفعلون كل هذه الأشياء، فهو حسن إسلام في الظاهر وانقياد ظاهري، ولكن تخلف الانقياد الباطني الذي هو عمل القلب، فلا يمكن أن يكون بالمقصود من قوله: (فحسن إسلامه) صلاح الظاهر فقط، بل لابد أن يكون في ظل هذا الحديث اشتراط حسن الإيمان القلبي والانقياد الباطني، فهذه الحالة الأولى من حالة ورود لفظة الإسلام.
الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترناً بالإيمان، فهو حينئذ يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة فقط، إذا جاءك نص قرن فيه بين الإسلام والإيمان، ينطبق عليه قاعدة: إذا اجتمعا في لفظ واحد افترقا في المعنى لكن إذا افترقا اجتمعا.
إذاً: الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترناً بالاعتقاد فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، كقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هنا اقترن الإيمان بالإسلام.
وربما يقول قائل: حديث عمرو بن عبسة أليس فيه إدخال الإسلام بالإيمان؟ نقول: نعم؛ ولكن جاءت قرينة تدل على أن الإسلام في أول الحديث المقصود به كل أمور الدين؛ لأنه نص على أن الإيمان جزء من الإسلام، والإسلام يشمل هذا ويشمل ما عداه.
وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال له سعد رضي الله عنه: (ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً)، يعني: هلا أطلقت عليه لفظة الإسلام لا لفظة الإيمان؟ لأنك تخبر عن علمك أنت، فعلمك يكون حسب الظاهر، فلا تقل: مؤمناً، لكن قل: مسلماً؛ لأنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة، فهنا قوله: (إني أراه مؤمناً)، قصد بالإيمان الأمر الباطن، والرسول عليه الصلاة والسلام قصد بالإسلام الأمر الظاهر.
وفي رواية النسائي: (لا تقل: مؤمناً، وقل: مسلماً)، وكحديث عمر أيضاً الذي سقناه في بداية الكلام، قال: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -كلها أعمال ظاهرة- وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن -هذه أعمال باطنة بالقلب- بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.