أما عودة التكفير في عصرنا الحاضر، فكان له عدة أسباب: أولها: الاضطهاد السياسي.
ثانيها: فقدان الثقة بالعلماء الرسميين.
ثالثها: محاولة أخذ الأحكام من القرآن مباشرة دون معرفة كافية.
رابعها: الخلط بين الكفر الأصغر، والكفر الأكبر، سواء كان كفر الاعتقاد أو كفر الأعمال.
خامسها: التعلق بنصوص بعض المفكرين الإسلاميين وبالذات بـ سيد قطب والمودودي رحمهما الله، فقد كان لهما بعض عبارات فهمت بطريقة أو بأخرى أدت إلى تغذية هذه الأفكار منذ البداية.
وهناك تفاصيل كثيرة عن الاضطهاد السياسي لا نطيل بذكرها، لكن لعلنا نوهنا بها منذ البداية أنها كانت أحد العوامل التي أثمرت رد الفعل على ذلك.
أما فقدان الثقة بالعلماء الرسميين فقد أشرنا إليها إشارة عابرة، لكن نقف قليلاً عند محاولة أخذ الأحكام من القرآن مباشرة، فيمكن أخذ أحكام القرآن مباشرة إذا كانت صادرة عن القرون الأولى أو في عهد الصحابة، فهذا لابد أن يكون مقبولاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بفطرتهم السليمة، وبفهمهم للغة العربية، وبمعرفتهم بأسباب النزول، وبمعاشرتهم للوقائع التي نزلت فيها الآيات، وأسباب ورود الحديث الشريف كانوا يفهمون المقصود، فلذلك كان يمكن أن يأخذوا من القرآن مباشرة.
أما بعد أن تطورت هذه القرون، ومرت هذه الأزمان، ووجد شباب لا حظ له لا من علوم اللغة، ولا من علوم القرآن، ولا من علوم السنة، ولا من أدوات النظر المباشر في القرآن الكريم تجاسر هؤلاء الشباب على أخذ هذه النصوص، بحيث أثمروا وأنتجوا هذا الفكر، وقد وقعت بعض حوادث قليلة من بعض الصحابة ربما يكونون أخطئوا في فهم بعض آيات القرآن، لكن سرعان ما كانوا يرجعون إلى الصواب في ذلك، مثال ذلك: ما وقع من عمثان بن مضعون رضي الله عنه حينما شرب الخمر في خلافة عمر رضي الله عنه، وقال: إن التقوى والصلاح تزيل أثر هذه الحرمة، واستشهد على فعله بقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، فأوضح له أمير المؤمنين خطأه في فهم هذه الآية، وتركه ليحاور بعض فقهاء الصحابة الذين ذكروا أن الآية نزلت بعد تحريم الخمر.
وعلى أي الأحوال هذا نموذج معروف.
وأيضاً: بعض الناس فهم من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، فقالوا: لا حاجة للسعي بين الصفا والمروة؛ لأن الآية فيها رفع الجناح، ورفع الجناح يعني: عدم الوجوب، فلما سمعت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ليس الأمر كما فهمت، ولكن بعض المسلمين كان يسعى في الجاهلية بين الصفا والمروة والأصنام هناك، فلما أسلم صار يتحرج أن يفعل كما كان يفعل من السعي، فأنزل الله هذه الآية لرفع هذا التحرج الذي وجد في صدورهم.
ومما وقع فيه بعض الشباب من هذه النماذج في هذا الزمان: أن بعضهم يرى أن المسلم متى ارتكب معصية صغيرة أو كبيرة فيلزمه التوبة فوراً، وإلا صار كافراً، واستشهدوا بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17]، ولم يجمعوا هذا النص الحكيم بغيره من النصوص، وبالذات الآية التي تلي هذه الآية، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فقوله: (من قريب) يعني: عند حدوث الموت، فإذا أضفنا إلى ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
تبين أن التوبة لها أجلان: أجل في حق عمر الدنيا، وأجل في حق عمر الإنسان، فلو أن رجلاً أذنب ذنباً، وأخطأ بأن سوَّف في التوبة، وعاش فترة بعد ذلك، فهل يعيش هذه الفترة كافراً بهذا الذنب؟ فاستدلالهم بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] استدلال فيه نظر، فأجل التوبة يكون إما بحضور الأجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وأما في عمر الدنيا فحين تطلع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة.
فالشاهد: أن بعض الناس ربما بتروا نص القرآن عن جملة ما ورد من النصوص في ذلك، فينشأ عن ذلك هذا التحريف في المعاني.
كذلك أيضاً استدلالهم بمثل قوله تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81].
قالوا: ((سَيِّئَةً)) هنا تعم كل معصية، وقوله: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) إشارة إلى الإصرار عليها إلى أن يموت عليها.
والرد على ذلك: أن هذه الآية نزلت في اليهود، فقوله: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً)) يعني: مثل سيئتكم أيها اليهود! وكفر مثل كفركم، أو شرك مثل شرككم، والسياق يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:78 - 79] ((وَقَالُوا)) أي: اليهود {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، يعني: الأيام المعدودة التي عبدوا فيها العجل، {قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80 - 81] فلا يقاس أبداً المسلم الذي ارتكب المعصية على المشرك، أو الذي ارتكب هذه السيئة الكبيرة التي فعلها اليهود.
وكذلك استدلالهم بقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
ومعلوم الخلاف في تفسير هذه الآية، والأقرب إلى منهج أهل السنة والجماعة والصحيح: أن قاتل المؤمن إذا تاب فإنه تقبل توبته، ولا يخلد في نار جهنم، وإنما المقصود بالخلود هنا طول المكث، والدليل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فأثبت لهم أخوة الإيمان مع وجود هذا الاقتتال، فدل على أنه لم يكفرهم بذلك.
أيضاً: حصل بعض الانحراف لديهم، بحيث قرر بعض الناس مقولة: المنزلة بين المنزلتين، فيقولون: هذا الشخص لا نحكم عليه بأنه مسلم ولا نحكم عليه بأنه كافر، بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن لا يستعملون تعبير المعتزلة؛ لأنهم لم يكونوا قد وقفوا عليه، وإنما قالوا: نتوقف فيه.
أيضاً تخبطهم في ضابط الحكم على الكفر بأنه أكبر أو أصغر، وأحد أسباب شيوع ظاهرة التكفير هو الخلط بين هذين النوعين من الكفر، فهناك كفر النعمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، فالكفر هنا بمعنى جحود وكفران النعمة وعدم شكرها.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حق النساء: (وتكفرن العشير، قالوا: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير: تحسن إلى إحداهن الدهر، فإذا رأت منك ما تكره قالت: ما رأيت منك خيراً قط).
فسماها كافرة بمعنى: كفر النعمة أو الجحود بفضل الزوج عليها.
أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).
ومع ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وقال بعدها: ((إنما المؤمنون إخوة))، فمع وجود الاقتتال أثبت لهم الإيمان، فدل على أن هذا الكفر لا يخرج من الملة.
كذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من ادعي إلى غير أبيه فقد كفر).
يعني: من انتسب إلى غير أبيه فقد كفر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر).
وهناك خلاف في قضية ترك الصلاة، حيث أطلق عليها في الأحاديث أيضاً لفظ الكفر، والأحاديث بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل والكفر ترك الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وجمهور العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة يفهمون هذه الأحاديث في ضوء قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله عز وجل، من جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد؛ إ