يقول شيخ الإسلام: فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً) فهنا ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم خلاف الترتيب المتعارف عليه الآن بين عموم الناس إذا حضرت الجماعة، فإنهم لا يعملون بهذا الحديث، وربما صدروا الأكبر سناً لأول وهلة، وهذا في حالة إذا لم يكن هناك إمام راتب، فعليهم أن يقدموا الأولى.
ويقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} [البقرة:114] يعني: لا أحد أظلم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]، فهؤلاء ممن يسعون في خراب ببيوت الله عز وجل، والمفروض هو أن الدعوة الإسلامية تحرص كل الحرص على أن توجد لها مواقع جديدة في المجتمع توثر بها على القطاع الأعظم من المسلمين، فالقلاع المتبقية الآن هي هذه المساجد، فماذا يبقى بعد أن نهدم بأيدينا هذه القلاع وهذه الحصون؟! ماذا يبقى بعد ذلك للإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟! فهل نستجلب نحن وصف الغربة الذي هو إضعاف الدين بأيدينا؟! فهل عند قائل هذا عقل فضلاً عن الدين.
يقول شيخ الإسلام: وأما إذا ولي رجل بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذا الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان رد بدعة ببدعة.
يقول: حتى إن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم.
فأكثر العلماء كرهوا إعادة صلاة الجمعة إذا صليتها خلف فاجر، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع.
وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ونحن نعلم الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تنبأ ببعض الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فسأله الصحابة: ماذا نفعل إذا أدركنا هؤلاء الأمراء؟ قال: (صلوا الصلاة لقوتها، واجعلوها معهم نافلة) فكل واحد يصلي الصلاة لوقتها لحاله وحده، فإذا أقام الصلاة في غير وقتها هؤلاء الأمراء فصلوها معهم نافلة إظهاراً لطاعة أولي الأمر.
والشاهد في هذا أن هؤلاء الأمراء فساق، فإذا كان أمير يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها ويداوم على ذلك فهذا فسق منه، فلو كانوا يصلون في أول الوقت لأمرهم أن يصلوا معهم، ولكونهم سوف يؤخرونها عن وقتها أمرهم أن يصلوا الصلاة لوقتها مراعاة لحرمة الصلاة، ثم يصلوا خلفهم نافلة، فما دامت النافلة تصح خلفهم فكذلك الفريضة خلفهم مع فسقهم.
يقول شيخ الإسلام: حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع.
وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة، ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد.
فما دمت قد بذلت وسعك لصحة الصلاة فلا تعد، حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس، وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
يقول شيخ الإسلام: وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فـ عمر وعمار لما أجنبا وعمر لم يصل وعمار تمرغ كما تمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء؛ لأن هذا الذي كان يستطيعه ساعة دخوله في الصلاة، وأبو ذر لما كان يجنب وبدأ يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منعتها الصلاة والصيام لم يأمرها بالقضاء.
والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيئ في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات.
والمسيئ هو خلاد بن رافع، صحابي أنصاري شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد مع علي الجمل وصفين، وتوفي أول إمارة معاوية، وهذا الحديث رواه السبعة.
والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرها بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: قيل: يثبت.
وقيل: لا يثبت.
وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ.
والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وفي الصحيحين: (ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل رسله مبشرين ومنذرين) فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً.
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الكلام في حكم من يسب الصحابة رضي الله عنهم.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن حكم الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع فقال رحمه الله: وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور ففيه نزاع مشهور وتفصيل ليس هذا موقع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء للإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور والبدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية -يعني الداعية إلى البدعة- وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة.
ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى، بخلاف من أظهر الكفر، فإن كان داعية -أي: إن كان المبتدع داعية- إلى البدعة غير ساكت وغير مستتر بها منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد صلاته أو إتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك.
ويعني بالمظهر للمنكر من لا يبالي بالجهر بالمعصية، ولو كان مستتراً بالمعصية لكان ذلك أهون، لكنه يجهر بها، كحلق اللحية -مثلاً- وقد علم أنه حرام، وكالتدخين ولباس خاتم الذهب وغير ذلك من المعاصي الظاهرة التي يتلبس بها كثير من الناس.
يقول: فإذا أمكن لإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين لتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه، كالجمعة والأعياد والجماعات إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم إفساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
ولهذا كان التاركون للجمع والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ إذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد بين العلماء، منهم من قال: إنه يعيد؛ لأنه فعل ما لا يشرع، بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهياً عنها، فيعيدها، ومنهم من قال: لا يعيد؛ لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع عند نداء الجمعة، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع.
وكثير من الم