نصوص العلماء في عدم تكفير المعين

هناك بعض النصوص لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء في قضية عدم تكفير المعين، وعدم الاجتراء على ذلك.

ونبدأ بكلام لـ ابن الوزير في كتابه (إيثار الحق على الخلق)، يقول رحمه الله: واعلم أن أقصى الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله عليهم السلام، أو لشيء مما جاءوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختل العقل ولا مكره.

يقول: وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع.

ويقول: وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها إذا قارف المعلوم بالضرورة للبعض أو للأكثر لا المعلوم له وتأول، وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التصريح، أو التبس علينا في حقه، وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد، ومضادة الأدلة الجلية عقلاً وسمعاً، ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة، وهؤلاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عند المحققين.

وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: أما قول بعض أهل العلم: إن المتأول كالمرتد فهاهنا تسكب العبرات، ويناح على الإسلام وأهله بما جره التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن، ولا ببيان من الله ولا ببرهان، بل لما غلت مراجل العصبية في الدين، وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب في البقيع، فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة -أي: الداهية- التي هي أعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين، فأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز وجل وحرقة من الغيرة الإسلامية علمت -وعلم كل من له علم بهذا الدين- أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه: إنه إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

والأحاديث بهذا المعنى متواترة، فمن جاء بهذه الأركان الخمسة، وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائناً من كان، فمن جاء بما يخالف هذا من ساقطي القوم وزائفي العلم بالجهل فاضرب به في جهه، وقل له: قد تقدم هذيانك، هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.

دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر.

يقول الشيخ صديق حسن خان: وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام، فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان، وهذا منقول عنه نقلاً متواتراً، فمن كان هكذا فهو المؤمن حقاً، وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين، والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية.

مثلاً: إذا نظرنا إلى أدلة تحريم الغيبة ووجوب حفظ عرض المسلم بأنواعها نجد أنها من أكبر الذنوب وأكبر الكبائر، فكيف يكون الأمر إذاً؟! إن من الغيبة أن يقول المرء عن شخص: فلان قصير.

أو نحو ذلك، أو يعيب ملابسه، أو ابنه، أو أي شيء يخصه، فهذا من الوقوع في عرض المسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه، وأربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه المسلم)، فهذا فيه تعظيم شديد جداً لعرض المسلم، فكيف بالطعن في دينه وانتسابه إلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فما من شك في أن الجرأة على التكفير أخطر من ذلك، والأمر الذي يرتاب فيه الإنسان عليه يقول فيه: أقول ما يقول أهل العلم.

أو: أنا طالب علم.

أما أن يخضع للإرهاب الفكري كأن يقول له شخص: من لم يكفر الكافر فهو كافر حتى يزيل الوحشة التي يجدها المبتدع فلا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الأساليب.

يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: وفي الأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية؟! فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، وجرأة لا تماثلها جرأة، وأين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضاً: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضاً: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) وهو في الصحيح، وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية، فالهداية بيد الله عز وجل {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير سورة الحجرات في قوله تبارك وتعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] قال: وليس قوله: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلا باختياره الإيمان على الكفر كذلك لا يكون المؤمن كافراً من حيث لا يقصد الكفر ولا يختاره بالإجماع.

والحقيقة أن مشكلة التسرع في قضية التكفير ترجع إلى التداعيات التي تترتب عليها، والآثار الذي تنتج عنها، وهذا أمر محسوس، وقد لمسنا في الواقع الحي نماذج له، وكثير من البلاد تعيش مرارة هذه الانحرافات حتى اليوم، فإن من المكفرين من وصل إلى حد تكفير أئمة، بل وصل بعضهم إلى حد تكفير الأنبياء، فقد وقع أن بعض هؤلاء كان ينكر أن هناك ظلماً دون ظلم، وكفراً دون كفر، وجهلاً دون جهل، فاستدل بعض الإخوة -وظنوا أن الحجج ستكون قاطعة تخرسهم- بمثل قول يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فعاند المكفر وأصر، وقال: إن معنى (كنت من الظالمين) أن يونس عليه السلام كفر ثم أسلم.

وحملوا على ذلك كل حديث، حتى نسبوا إلى آدم أنه كفر -أيضاً- بالذنب ثم أسلم، فالتوبة دخول في الإسلام من جديد، وهذا من الضلال والانحراف في العقيدة.

ومما نلمسه من آثار هذه البدعة تكفير السلف، مثل الإمام البخاري، فبعض هؤلاء الضالين كفر الإمام البخاري؛ لأنه قال في كتابه: (باب كفران العشير وكفر دون كفر) فعد هذا كفراً، فكفر البخاري وكفر مسلماً، وكان يقول شكري مصطفى: يجوز الاستدلال بأحاديث البخاري وإن كان كافراً، والكافر يمكن أن يكون صادقاً.

وكفروا -أيضاً- كثيراً من العلماء المعاصرين، ومنهم الشيخ ناصر الدين الألباني وغيره من أئمة الهدى، فالشاهد أن من آثار ذلك: استحلال الأعراض، والدماء، والأموال، وعقوق الوالدين كما يقع، بل ربما تقع إراقة دم الأب أو الأم، واستحلال الفروج، فلضلالاتهم قد يأخذون امرأة من زوجها ويزوجونها شخصاً آخر، فهل هناك جرأة أعظم من هذه الجرأة؟! فهذا هو شؤم هذه الدعوة الضالة، إلى جانب فتح باب عظيم لأعداء الإسلام من الصحفيين والإعلاميين لتشويه الدعوة والتنفير منها بحجة أن هذا هو الذي يدعو إليه هؤلاء الناس، وهو السخرية من العبادات، وتكفير الذين يصلون في المساجد لأنهم يأوون إلى معابد الجاهلية ويشاركون الجاهليين في عبادتهم، فتصور ديناً أو عقيدة أو نحلة وصل خذلان الله تبارك وتعالى لأصحابها إلى أنهم يتعبدون بهجرة المساجد، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]، فكان شكري مصطفى يعتقد أن جميع المساجد على وجه الأرض مساجد ضرار لا تجوز الصلاة فيها ما عدا أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وما عدا ذلك من المساجد فلا يجوز الصلاة فيها؛ لأنها كلها مساجد ضرار، ومن يصلي فيها كافر، حتى بلغني أن مثل هذا كان إذا سمع الأذان يقول: هذا مكاء وتصدية المشركين.

فصارت عبارات الأذان ونداء التوحيد مكاء وتصدية عندهم، وهذا هو الذي حكاه الله عن المشركين في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35]، فهل هؤلاء عندهم دين؟! وهل يخافون الله عز وجل ويراقبونه؟! وهل هؤلاء يعدون العدة ليوم الحساب حينما يعتدون على شعائر الله وعلى دين الله تبارك وتعالى بهذه الطريقة؟! فالشاهد أن هذه القضية ليست بالهينة، ويترتب عليها من الآثار ما نلمسه في واقعنا من هذه المناكر.

يقول الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: إن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: (من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) أي: إن كان غير مستحق لهذا يعود هذا الأمر عليه، وفي لفظ في الصحيح: (فقد كفر أحدهما) ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير، وقد قال الله عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]، فلاب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015