وهنا مثال آخر، وهو جهل الذين يتأولون للحلوليين ويحسنون الظن بهم، مع أن هؤلاء الحلوليين يعتقدون أن الله يحل في المخلوقات أو يتحد بها، فهناك من العلماء من أحسن الظن بهؤلاء ولم يكفرهم، مثل الإمام ابن حجر الهيتمي، والسيوطي، والألوسي، والقاسمي، ونحو هؤلاء يدافعون في بعض المواضع عن محي الدين بن عربي، ويعظمون شأنه ومقالته، والحافظ السيوطي رحمه الله تعالى كتب رسالة سماها (تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي) فذكر فيها أن الناس انقسموا في ابن عربي فريقين: الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها.
ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفريقان، وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه.
وابن عابدين صاحب الحاشية على الدر المختار عقد مطلباً في حاشيته عنون له بقوله: مطلب في حال الشيخ الأكبر سيدي محي الدين ابن عربي نفعنا الله تعالى به.
وقد دافع في هذا المطلب عنه وقال: ومن أراد شرح كلماته التي اعترض عليها المنكرون فليرجع إلى كتاب (الرد المتين على منتقص العارف محي الدين) لسيدي عبد الغني النابلسي.
وابن حجر الهيتمي ممن لا يعذرون بالجهل في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) الملحق بكتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، فقد صرح بأنه يعتقد جلالة ابن عربي ولا يعتقد عصمته، بل الألوسي في (روح المعاني) لا تكاد تخلو تفسيراته الإشارية من النقل عن ابن عربي في (الفتوحات المكية) و (فصوص الحكم) وغيرها.
ودائماً يقول الألوسي: قال الشيخ الأكبر قدس الله سره.
وهو يعني بذلك ابن عربي.
والألوسي في مثال من هذه الأمثلة يقول: ولمولانا الشيخ الأكبر قُدِّس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى، فمن أراده فليرجع إلى (الفصوص) يرى العجب العجاب، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.
وانظر -أيضاً- إلى كلام الألوسي في عبارة أخرى: ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، فإنه قد هدي بها أرباب القلوب الصافية، وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وعطلوا الشرائع، واستحلوا المحرمات، وزعموا -والعياذ بالله تعالى- أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن قال: إن لقول هؤلاء سراً خفياً وباطن حق، وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص الخلق فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال، فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرف حقيقة أمره، فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
يعني: إذا وقفت على رجل يثني على ابن عربي فهل معنى ذلك أن تدمغه بأنه يعتقد كل ضلالات ابن عربي؟! كلا؛ فهو يحسن الظن به، وإن كان هذا الظن لا يقع موقعاً يستحسنه، لكن لا يأخذ الناس كلهم حكماً واحداً.
يقول شيخ الإسلام: كل من كان أخبر بباطل هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفراً وإلحاداً، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ والعارفين الذين يتكلمون بالكلام الصحيح الذي لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقراراً لهؤلاء، وإحساناً للظن بهم، وتسليماً بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال إلى أن قال شيخ الإسلام: فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين.