النوع الثاني من أهل الفترة: من بلغته الدعوة، ولكنه أشرك وغَير ولم يوحد، وأمثلته كثيرة، كـ عمرو بن لحي بن عامر الأسدي، وهو أول من غير في دين إسماعيل عليه السلام، قدم الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام فأعجب بها، فأخذ منها وأتى مكة، ودعا الناس إلى عبادتها، وكان آنذاك سيد قومه، فـ عمرو بن لحي هو أول من سن عبادة الأصنام، وهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار)، أي: يجر أمعاءه في النار.
وفي بعض الأحاديث: (لأنه أول من سيب السوائب)، وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة.
وكذلك عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان فقالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا؛ إنه لم يقل يوماً: رب! اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي توفي والرسول صلى الله عليه وسلم في بطن أمه، ففيما رواه مسلم: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار)، أخرجه مسلم.
وكذلك ورد حديث بشأن أم النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آمنة بنت وهب، وقد توفيت عنه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنوات، قال عليه الصلاة والسلام: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي)، أخرجه مسلم، فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة، ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح؛ لأن النبي نهيَّ عن الاستغفار لها حيث إنها لم تمت على التوحيد، سواء بلغتها الدعوة أم لم تبلغها.
فهذا النوع ليس محلاً للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم، وذكر بعض العلماء أن الله أحيا له أبويه فأسلما على يديه ثم ماتا، وهذا موجود في رسالة للإمام السيوطي، ولا يصح، وقد طبعت هذه الرسالة مؤخراً محققة، لكن لا يصح ذلك أبداً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حول هذه الدعوة: لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحاً لتناقلته كتب الصحاح؛ لأنه من أعظم الأمور خرقاً للعادة، لما فيه من إحياء الموتى والإيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18] فبين الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافراً، وجاء في صحيح مسلم: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ فقال: إنه في النار.
فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار).
يقول شيخ الإسلام: وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار جائزاً بحقهما لم ينهه عن ذلك، أي: الاستغفار، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمناً فإن الله يغفر له، ولا يكون الاستغفار ممتنعاً، أما زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمه فإنها كانت بطريقه بالحجون بمكة، أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له؟! ولو كان أبواه مؤمنين لكانا أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس، والله تعالى أعلم.