قبل أن ندرس قضية العصر، أو موضة العصر، وهي قضية العذر بالجهل التي تطرح بين وقت وآخر، وتتعرض للخوض الكثير فيها، ونرجو -إن شاء الله- أن نتكلم فيها بمزيد تفصيل، ثم لن نفتحها بعد ذلك، ولا نحتاج إلى ذلك بإذن الله، قبل ذلك علينا أن نعلم أن بعضاً ممن يكتبون أو يتكلمون في قضايا العذر بالجهل يخلطون بين أمرين: بين الكافر الذي لم يدخل أصلاً في الإسلام، وبين المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام، فتجد بعض الناس يستدل بأدلة هي في حق المشركين الذين لم يدخلوا أصلاً في الإسلام، كقوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:172 - 173] إلى آخر الآية في سورة الأعراف، فهذه في حق المشركين.
وفي الطرف الآخر يستدل بعض الناس بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهذه -أيضاً- تحمل على غير معناها.
فالشاهد أن بعض الناس يخلطون بين هذين الطرفين، وفرق بين من استكبر أن يقول لا إله إلا الله، واستكبر عن أن يدخل في دين الإسلام وكفر ولم يؤمن بالله ولا بالرسول ولا بالقرآن، ولا دخل في الإسلام، وبين من دخل في الإسلام، ثم خالف أو وقع في شيء يناقض عقيدة التوحيد ويناقض عقيدة الإسلام دون أن يعرف أن هذا يناقض الإسلام، أو دون أن تبلغه الحجة الرسالية، فرق كبير بين الطرفين، وسنزيد ذلك بياناًَ إن شاء الله فيما بعد.
ومما يتعلق بقضية العذر بالجهل قضية أهل الفترة، وكثير من المتكلمين يناقشون معرفة الله هل تدرك بالعقل أم تدرك بالشرع؟ واعتقادنا -والله أعلم- أن هذه الأشياء تدرك عن طريق التلقي بالوحي لا عن طريق العقل، بل إن الله تبارك وتعالى قد فطرنا على فطرة الإسلام، وأنزل إلينا الكتب، وبث آياته في الآفاق وفي أنفسنا، ومع ذلك فإنه -تبارك وتعالى- تفضل وامتن على عباده بأنه لن يعذب أحداً منهم حتى تبلغه حجة الرسل.
فإذاً: الحجة تقوم بالأنبياء والمرسلين، وبنصوص الوحي، ولذلك قال عز وجل: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))، وترد هنا بعض الأدلة التي فيها المؤاخذة قبل بعثة الرسل، مثل حديث الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين أبي؟ فقال: في النار فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار).
فنجد أن ناساً يقولون: إن هذا دليل على أن هؤلاء كانوا في النار رغم أنهم كانوا من أهل الفترة، لكن مع ذلك عذبوا.
وهذا يعني أن النقاش في هذه القضية سيطول قليلاً -إن شاء الله- لنوضحها؛ لأن لها علاقة بما نحن بصدده.