يقول وهبة الزحيلي: لقد استمعنا في هذه الفترة الطيبة المباركة إلى بحثين عظيمين، ولكن استوقفني النظر إزاء تحديد الفكر الإسلامي، وكأن الاتجاه يتجه إلى حصر الفكر في مفهوم العقيدة والقضايا العامة، وكأنهم يعزلون الفكر عن نطاق الاجتهادات الإسلامية التي مثلتها أعمال الأئمة العظام من فقهاء المذاهب، وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر.
يعني: دائماً يتكلمون على قضايا العقيدة وقضايا عامة، ويفصلون الفكر عن الفقه مع أن الفقه حاكم على الفكر، فالفكر أن يفتح إنسان الكتاب ويتدبره بفكره وبعقله، ويهيم فيه ثم قد يصيب وقد يخطئ، فهناك فرق بين الفكر وبين العلم، ولذلك نحن نأخذ دائماً قضايا الفكر وكتب الفكر بحذر، لابد أن يكون هناك وعي كافٍ لمن يقرأ في كتب الفكر حتى لا يتابع المفكرين في بعض توهماتهم وتخبطهم، والمفكر لابد أن يكون مجذوباً بخيوط تشده إلى أصول أهل السنة والجماعة حتى لا يهيم بعيداً، ولا بد أن يكون مجذوباً بخيوط من العلم الشرعي حتى لا يخالف الأحاديث والأدلة، ومجذوباً ومشدوداً ومقيداً بخيوط تجذبه نحو الفقه الإسلامي حتى لا يشذ عن الفقهاء ويتخبط بعيداً عنهم، ففكر بدون علم قد يأتي بشر كثير.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله: وكأن الفقه مراد له ألا يكون من أنماط هذا الفكر، مع أن الإسلام لم تتضح صورته، ولم تبرز معالمه، ولم يكتب لها الخروج، ولم تعرف صلاحيته للتطبيق في مؤتمرات العالم المقارنة للقوانين والأنظمة والتشريعات إلا عن طريق الفقه الإسلامي، فكيف أستطيع أن أقبل ما أشار إليه ضمناً الأخ يوسف العظم من أن سيد قطب كان يحيل إلى الفقهاء؟ يعني: كيف يتكلم الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تنظير الفكر الإسلامي، ويتكلم عن عدم وجود دولة إسلامية؛ ويتكلم في هذه القضايا الحساسة والمصيرية وهو يعترف ضمناً أنه لم يكن فقيهاً، فيحكي عنه الأستاذ يوسف العظم أنه كان يكتب ملازم من الظلال أو بيتاً من الشعر ثم يعرضها على إخوانه الفقهاء.
يقول: وكيف أقبل أن تصورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات الجذور في الهواء؟ كيف نتكلم على فقه الفقهاء وكلام الفقهاء في الحلال والحرام والفروع ونحوها: استنباط جذور في الهوى أو أنه هزل، أو أن هؤلاء الذين يسألون عن الأحكام الفرعية والذين يجيبونهم هؤلاء هازلون وهؤلاء هازلون؟! كيف يسمى هذا هزلاً؟! كيف ننظر بهذه النظرة التي فيها ازدراء للفقه، وأهمية الفقه في حياتنا والتزامنا بديننا؟! يقول الدكتور وهبة الزحيلي: وكيف أقبل أن تطورات الفقهاء واستنباطاتهم كانت بمثابة استنبات البذور في الهواء؟! إني لا أقبل وأرفض كل هذه الفكرة أسلوباً ومنهاجاً وتطوراً، وإن له كتابات كثيرة في هذا الموضوع -أي: الأستاذ سيد رحمه الله- تقصي الفقه، وتبعده عن القيام بأي عمل حتى تقوم دولة الإسلام، وعندئذٍ يأتي عمل الفقهاء، لا يمكنني أن أقبل مثل هذا التصور من المرحوم -هكذا قال- سيد قطب، وحتى إن بعض من يتحمس لأفكاره يعادون فكر الإسلام من هذه الزاوية، ولا يمكننا أن نفصل الإسلام عن هذا الاجتهاد العظيم؛ لأننا لا بد أن نبحث قضايا العصر، ومن الذي يبحثها: أليس هم الفقهاء؟ أليس الفقه هو الذي يتصدى لبحث الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ ثم إني لم أجد في بحث الأستاذ محمد عبد الله السمان ولا في كلام الأخ الدكتور فتحي عثمان إشارة من ناحية الفكر إلى فقه الإسلام، وكأنهما حصرا الفكر في زاوية معينة هي زاوية العقيدة، ولا يمكنني أن أقبل بأي حال من الأحوال تلك المقولة لو استقبلت من أمري ما استدبر لاكتفيت بالقرآن، هذه الكلمة حكاها بعض المحاضرين عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأعتقد أن هناك تصرفاً في حكايتها، فـ شيخ الإسلام ما كان يقصد بقوله: أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاكتفيت بالقرآن، رد السنة؛ إذ لا يمكن بذلك أن يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة، لكن كان نادماً على كل وقت ضيعه في مناظرة المتكلمين والفلاسفة، ونقد هذه المذاهب دون أن يرتبط بالقرآن الكريم، قال هذا لما خلا شيخ الإسلام رحمه الله في آخر سجنه بالقرآن، وفتح الله عليه بمعارف عظيمة جداً في كتاب الله تبارك وتعالى، حتى هذه المقولة يمكن أن تؤخذ بشيء من النظر؛ فبعض الناس الذين استفادوا من إثراء شيخ الإسلام المكتبة الإسلامية بالرد وبإبطال مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والصوفية وأعداء الإسلام قالوا: ما كتبه شيخ الإسلام أفاد كثيراً، واستفادوا منه في هذه الأشياء.
يقول: ولا يمكن أن أقبل تلك العبارة التي هزت كل كياني، وهي: أن مساجد اليوم معابد الجاهلية، لم أفهم هذه العبارة ولم أعرف ما مدلولها، أأصبحت المساجد هي معابد الجاهلية؟! ثم إن الأخ محمد عبد الله السمان قد وقع في خطأ عندما صور الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي، فكل من أهل الرأي وأهل الحديث لم يقصر جهده لا على الحديث وحده، ولا على الرأي وحده، وإنما كان كل واحد منهما يعمل بالحديث وبالرأي معاً، ولكن غلب على أحد الاتجاهين العمل بالحديث، وغلب على الآخر العمل بالرأي، وليس الرأي ما نعرفه اليوم بالفكر المحض، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي، فالرأي كان عندهم في الغالب هو القياس مثلاً أو ما شابه ذلك، وليس الرأي المحض، يعني: الفكر الآن يهيم بدون ضوابط في هذا الزمان، وإنما هو رأي يستمد أصوله من روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة فهو لا يكاد يخرج عن دائرة النص وإن سمي رأياً.
هذا كلام الدكتور وهبة الزحيلي حول السنة والفقه في منهج السيد قطب.
وبقي تعليقات أخرى مفيدة لكثير من المفكرين يناقشون فيها بحث الدكتور جعفر شيخ إدريس حول قضية المنهج في فكر السيد قطب، ولا يتسع المقام لذكرها.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.