والآن نأتي إلى النقطة التي تمس الموضوع الذي نتحدث فيه منذ زمن بطريقة مباشرة وهي: أثر كتابات الأستاذ سيد قطب رحمه الله في فكر التكفير، أو ما يسمى بفكر جماعات التكفير الموجودة الآن، أو التي وجدت متأثرة في ذلك ببعض كتاباته.
بداية نقول: إن المرء لا يستطيع أن يخفي إعجابه بمواقف الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وبالذات صموده أمام الطغيان حتى اللحظة الأخيرة من حياته، ولا يستطيع أحد أن ينكر فضله في تزويد الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، فما من شك أنه أمدها وزودها بالوعي الذي هو وقود هذه الحركة، وأيضاً بمزيد من الاستقلالية والاستعلاء على الباطل، وتحدي هذا الباطل، حتى أدى ذلك إلى أنه دفع حياته ثمناً لعقيدته التي كان يعيش لأجلها، واعترافنا بهذه الفضائل وغيرها لا يعني أنه ليس هناك نقاط اختلاف، وبصراحة أكثر هناك نقاط خلاف جوهرية، وليست جزئية ولا فرعية، وتحفظات في كثير من مواقفه رحمه الله وكتاباته، وأعلم أن كثيراً من الناس يصعب عليهم أن يجدوا الشخصية التي يحبونها ويعجبون بها يؤخذ عليها شيء أو تنتقد، ولكن إن أخطأ سيد قطب رحمه الله فقد أخطأ من هو أجل منه؛ ابتداءً من الرجل الثاني في الإسلام وهو أبو بكر رضي الله عنه، إلى باقي الخلفاء الراشدين، إلى علماء الأمة وفطاحل الجهابذة في كل العصور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فلا نستطيع أن ننكر أن هناك بعض كتابات وبعض أفكار مهما حاول كثير من الناس أن يسوغوا أو يدافعوا أو يوردوا التبريرات لبعض هذه الكتابات، لكن في الحقيقة -شئنا أم أبينا- إن احتمل بعض هذه الكتابات التأويل في موضع، فهناك مواضع لا تحتمل التأويل، وهناك مواضع كان الكلام فيها بخلاف الحق والله تعالى أعلم.
لكن ننبه على أننا في أثناء الكلام قد نورد بعض العبارات مع التزام دقة النقل، فننقل العبارات بكاملها وبنصها، وفي بعض العبارات سنجد بعض الكتاب يترخص في استعمال كلمة (شهيد)، وقد أشرنا من قبل أنه لا يجوز القطع لأحد بالشهادة حتى لو قتل في سبيل الله، لكن ندعو له بالشهادة، ونرجو له الشهادة، لكن لا يجوز القطع بأن فلاناً في الجنة، أو فلاناً فعلاً قد قتل شهيداً إلا بنص من الوحي، فهذا يكون لمن شهد له الوحي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما ما بعد ذلك فندعو له بالشهادة؛ لأن الخاتمة مغيبة، فإذا قرأنا بعض عبارات بعض المفكرين الذين يترخصون في استعمال هذه الكلمة فلا نحتاج باستمرار أن نستدرك، لكن سنقرؤها ونمر عليها بعد أن نبهنا على هذه العبارة.
مثال آخر: حينما قرأنا في الدرس الماضي عبارات مجلة البيان حول الملامح التجديدية في فكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، أشرنا إلى أن مجلة البيان أغفلت بعض الجوانب التي هي موضع نظر موضوعي وليس مجرد كلام سطحي أو يسير، وكان ينبغي -حتى يتم البحث من جميع جوانبه- أن تتكلم عن السلبيات أو الأخطاء التي يمكن أن يزل بها بعض الشباب المسلم بعيداً عن منهج أهل السنة والجماعة الذي تدعو إليه المجلة، فركزت المجلة على الملامح التجديدية لفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وكان ينبغي أن تفعل ما فعلت -مثلاً- مع الأستاذ محمد رشيد رضا وغيره من أصحاب المدرسة الإصلاحية حينما ذكرت بعض المحاسن، وأفاضت في ذكر بعض التعقبات تحذيراً ونصيحة للمسلمين.
وربما يخالف بعض الناس -مثلاً- في أن يوصف الشيخ سيد قطب رحمه الله بالمجدد، انطلاقاً من أنه خالف منهج أهل السنة والجماعة في بعض الجزئيات أو بعض الأشياء الأساسية، وهذه أيضاً قد لا تكون موضع اتفاق، وربما بعض الناس يدافع عن بعض اجتهادات الأستاذ سيد رحمه الله بالذات في الأمور العقائدية التي تمس قضايا الكفر والإيمان، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، وهذا الحديث مما يشيع الاستدلال به في مثل هذا المقام، وننبه إلى أن المقصود: الاجتهاد ممن هو أهل للاجتهاد، ومن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وبالتالي قد يخالف بعض الناس في تحقق شروط الاجتهاد في الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وربما بعضهم يعتذر للظروف النفسية التي ألفت فيها هذه الكتب، وربما اعتذر بعضهم أيضاً بأن الفترة العظمى أو الأولى من حياة الأستاذ سيد رحمه الله كان فيها أديباً مرموقاً، وطبيعة الأديب أن يسترسل في الأفكار والمعاني، ولا يشترط أن يكون منضبطاً تماماً بكل القواعد التي تشده إلى القواعد والأصول العلمية والفقهية.
على كل فإن جميع هذه الأعذار سواء كانت من المتمسكين بفكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله أو المخالفين له، هذه الخيوط كلها تجتمع في خيط واحد في النهاية هو: أنهم جميعاً يخالفونه في قضايا وليست قضايا مظهرية، لكنها قضايا جوهرية، وأنهم لا يقرونه مع اختلافهم في هذه التسويغات والتبريرات.
وفي الحقيقة هذه القضايا نحتاج أن نأتي عليها منذ البداية، ونفصل في الكلام فيها، وبالذات حينما ننسب الكلام إلى أناس ليسوا نكرات في الواقع الذي نعيشه، لكنهم أناس لهم وضعهم ووزنهم في مجال الدعوة الإسلامية، فممن تناولوا أفكار الأستاذ سيد قطب رحمه الله بالنقد أناس من فطاحل الجماعة التي كان ينتسب إليها في الفترة الأولى، وهي جماعة الإخوان المسلمين، وأشهرهم الأستاذ سالم البهنساوي، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور جعفر شيخ إدريس، والأستاذ يوسف العظم، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور عبد الحليم عويس، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، بل أشرنا من قبل إلى حصول مواجهة فكرية صريحة وصارمة من قادة الإخوان ممثلة في الأستاذ الحسن الهضيبي رحمه الله وابنه الأستاذ مأمون الهضيبي، فهؤلاء جميعاً تناولوا هذه الأفكار بالنقد، فلا حرج علينا في أن نتناوله أيضاً في ضمن هذه الدراسة حول قضايا الكفر والإيمان، ونعتمد على ما قالوه في هذه القضايا.