أنا حاولت أن أقرأ في مجلة المنار كنوع من المطالعة لهذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية، فشعرت أني سوف أغزى فكرياً، والإنسان يخشى على قلبه، فما تكاد تجد مقالة في أغلب المقالات التي تتحدث عن أوروبا إلا وفيها نوع من التعظيم الغير عادي، نعم عندكم كذا والإسلام فيه كذا، عندكم كذا من الميزات ونحن أيضاً عندنا كذا.
هذا يمكن أن يحصل لكن بصورة فيها نوع من الانهزامية أمام الغرب لا نستطيع أن ننكرها بين السطور، فهذه الروح حصلت في فترة من الفترات، وربما من طالع بعض كتابات العقاد مثلاً في وقت من الأوقات، رأى أنها رد فعل بهذه الروح، أو هي صورة من صور هذا الانهزام، مثلاً لما يكتب: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، وغيرها من كتبه، وكأنه في صورة الدفاع عن الإسلام، والغرب عندما يطعن في حكم معين من أحكام الإسلام، أو قضية من قضايا الإسلام، هم يقبلون مبدأ أن هذه تهمة، وبالتالي يقرون مبدأ أن الإسلام الآن موضوع داخل قفص الاتهام، وهم المحامون الذين يدافعون عنه حتى يعطوه البراءة؛ فهذا المبدأ في حد ذاته هو صورة من صور الانهزام.
مثلاً قضية تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمستشرقون خبثاء، كانوا يلقون هذه الشبهات حتى ينشغل المسلمون بالرد، ويبتروا من الإسلام هذه المفاهيم رويداً رويداً، فمسألة وضع الدين الإسلامي أو الحقائق الإسلامية في صورة أنه يحاكم، فهذا قبول بأن الإسلام متهم، وهي من حيث المبدأ ليست تهمة، وهذا يصلح إذا كنا نقارن بين شرائع وأديان أرضية صنعها البشر قارن بين اشتراكية وشيوعية، لكن لا تقارن بين الإسلام وبين هذه المذاهب الأرضية؛ لأن الإسلام هو دين الله الحق، والأرض هي مملكة الله، والآمر هو الله، والذي أنزل القرآن هو الله، فيتبين أن ينطلق المسلمون من هذا الحكم.
حينما تأتي مثلاً مواثيق حقوق الإنسان التي يقدسونها في الغرب، ويهولون من شأنها، وتنص على أن من حقوق الإنسان أن يتحرك في الأرض كلها حيثما شاء لا يمنعه مانع، ونأتي مثلاً لحكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخل المسجد الحرام مشرك: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، فهذا حكم الله، ولا ينبغي أن يكون للبشر فيه أي تبديل، ولا أي تغيير، فلا يمكن كافر من دخول هذه الأماكن.
هذا حكم الله عز وجل في أرضه.
لذلك مما يستحسن من عبارات الشيخ أحمد ديدات حفظه الله حينما كان يناقش ذلك القسيس الشيطان، وذكر هذه المسألة، قال: أنا أريد أن أدخل مكة؛ فأنت أتيت إلى بلادنا، وجعلناك تعطي محاضرة، وما منعكم أحد من ذلك، لماذا لا تجعلني أنا أدخل إلى مكة والمدينة؟ فرد عليه فقال: أنا حينما أردت أن آتي إلى بلادكم ما أتيت مباشرة، أنا أتيت إلى القنصلية أو السفارة، وحصلت على تأشيرة الدخول حتى أدخل، فاحترمت نظمكم، أنت كذلك إذا أردت أن تدخل مكة أو المدينة هناك تأشيرة لا بد أن تأتي بها حتى تدخل مكة والمدينة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لقد كان هذا شيئاً فذاً وجديداً، إن الكلام على الإسلام يجب أن يكون بهذه الاستقلالية، ورفض منطق الخضوع والانهزام أمام الغرب، ورفض مبدأ وضع الإسلام في قفص الاتهام حتى يأتي هؤلاء المفكرون ليحاموا وليدافعوا عنه في ذل وخنوع واستسلام.
ومن الأمثلة على ذلك: أن معظم كبار الدعاة والكتاب، كانوا يدافعون عن الإسلام بأسلوب فيه كثير من الضعف، فإذا راجت بضاعة الديمقراطية بين الناس، راحوا يتحدثون عن ديمقراطية الإسلام، سمعت أحد الخطباء مرة يتكلم على أن الإسلام هو دين الحريات، ودين الديمقراطية، وأن من مظاهر هذه الديمقراطية وهذه الحرية: أن الله أعطى إبليس حرية الأخذ والرد في حواره مع الله تبارك وتعالى، قال لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، أخذه من منطلق الحرية والديمقراطية، هذا أيضاً من الانهزام أمام هذه الأفكار الوافدة.
يقول: وإذا فتنت شعوبنا بالاشتراكية، وإذا أطنب المفكرون في الحديث عن الحضارة كتبوا المقالات، بل والمؤلفات في التعريف بحضارة الإسلام، لقد كان الإسلام عند هؤلاء الكتاب اشتراكياً وقومياً وديمقراطياً تقدمياً، أما الأستاذ سيد رحمه الله فقد رفض هذه الأساليب وحذر منها! وفعلاً تأملوا كلامه فهو كلام عظيم جداً، وربما كان للأستاذ محمد مبارك رحمه الله تعالى كلام طيب جداً مثل هذا أيضاً في رسالة له تسمى: ذاتية الإسلام، يقول الأستاذ سيد رحمه الله: وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام في ثقة وقوة، في عطف كذلك ورحمة، ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق، وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى، لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً، ولن نربص على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة، سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة، هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس، والله يريد أن يطهركم، هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن يطيبكم، هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم، هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم، والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها.
ويقول أيضاً رحمه الله: هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام؛ لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة، سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم أم في أي مكان خاطب الناس فيه، نظر إليهم من عل لأن هذه هي الحقيقة، لأنه أعلى من كل شيء، الإسلام يعلو ولا يعلى؛ لأن هذه هي الحقيقة، وخاطبهم بلغة الحب والعطف؛ لأنها حقيقة كذلك في طبيعته، وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد؛ لأن هذه هي طريقته، ولم يقل لهم: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة، أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها، كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام، مرة تحت عنوان: ديمقراطية الإسلام، ومرة تحت عنوان: اشتراكية الإسلام، ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة، إلى آخر هذا التدسس الناعم، والتربيد على الشهوات.
انتهى كلامه رحمه الله.
تأثر شباب الجيل بأسلوب سيد رحمه الله، فأعرضوا عن الأساليب السابقة الضعيفة، لاسيما وأنه رحمه الله أشبع هذا الموضوع بحثاً في مؤلفاته وتفسيره القيم: في ظلال القرآن، الذين عاشوا تلك المرحلة يدركون ما هو الجديد الذي جاء به صاحب الظلال، هذه حقيقة ليس فيها شك.
ومن عاش في هذه المرحلة يدرك الفرق بين اللهجة التي كانت سائدة في عالم الفكر في ذلك الوقت، وبين هذه اللهجة الجديدة التي أتى بها الأستاذ سيد رحمه الله، وهو هنا في الحقيقة يرد على واحد من قيادات الإخوان الكبار في سوريا، وهو صاحب كتاب: اشتراكية الإسلام.
هذا بالنسبة للجانب الأول من الجوانب التجديدية في دعوته رحمه الله.