أما التنبيه الثاني: فهو أن تحترم أهل التخصص، ودليل هذه القاعدة التي نشير إليها قول عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه في حديث البيعة: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، إلى آخر الحديث.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، يعني: ألا ينازع أهل الاختصاص من هم دونهم في هذا الاختصاص، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
فينبغي أن نضع كل إنسان في المقام اللائق به، يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تحت عنوان: (احترموا التخصص): أنصح هؤلاء الشباب أن يحترموا التخصص، فلكل علم أهله، ولكل فن رجاله، فكما لا يجوز للمهندس أن يفتي في أمور الطب، ولا الطبيب في شئون القانون، بل كما لا يجوز لطبيب متخصص في فرع أن يقتحم فرعاً آخر، كذلك لا يجوز أن يكون علم الشريعة كلأ مباحاً لكل من هب ودب من الناس، بدعوى أن الإسلام ليس حكراً على فئة من الناس، وأنه لا يعرف طبقة رجال الدين التي عرفت في أديان أخرى.
فالواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة رجال الدين، ولكنه يعرف علماء الدين المتخصصين الذين أشارت إليهم الآية الكريمة: {فَلَوَلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
وقد علمنا القرآن والسنة أن نرجع فيما لا نعلم إلى العالمين من أهل الذكر والخبرة، قال الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الشجة، وهي الجرح في الرأس الذي أفتاه بعض الناس بوجوب الغسل رغم جراحاته، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟! فإنما شفاء العي السؤال)، انتهى كلامه حفظه الله.
هذا أيضاً أمر مهم جداً، فحينما نتكلم مثلاً في درجة حديث من الأحاديث، أو الأخذ والرد في تصحيح بعض الأحاديث، فلا نفزع إلى الأستاذ محمد قطب حفظه الله، لكن نرجع إلى الشيخ الألباني أو إخوانه من علماء الحديث المتخصصين، أما إذا أردنا الكلام في القضايا الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة وضلالها، وخطط أعداء الإسلام، والغزو الفكري، فإن الأستاذ محمد قطب يعتبر من أخبر الناس بذلك.
وهكذا تجد في كل فرع من فروع الشريعة من فتح عليه في هذا الفرع، ولا يعني هذا تحقيراً وازدراءاًً لغير أهل التخصص، فأبواب الخير كثيرة، ويفتح على الإنسان في بعضها ما لا يفتح عليه في الآخر.
فبالنسبة لقضايا العقيدة وبالذات الكفر والإيمان، وهي قضايا ذات حساسية شديدة جداً، ولا ينبغي أن يفتح بابها من جديد، حتى يضع لنا بعض الناس حدوداً أو ضوابط جديدة لها؛ هذه القضية وضعت ضوابطها وحدودها عند أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة ليسوا نكرات في التاريخ الإسلامي، فهم مشهورون معروفون، ونحن قد فرغنا من الاطمئنان والثقة واليقين بأن الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، وربما تكلمنا في هذا كثيراً، وأقمنا على هذا الكثير من الأدلة، وأثبتنا أن أهل السنة والجماعة هم في الحقيقة امتداد تاريخي طبيعي وتلقائي للأجيال الأولى من خير القرون، وهم الصحابة رضي الله عنهم، ثم من تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، فيشمل كل أئمة أهل السنة والجماعة المعروفين.
وقد اختلف أهل السنة في المذاهب الفقهية، فهناك المذهب المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، وغير ذلك من المذاهب، لكنهم في العقيدة لا يختلفون، ويجمعهم اسم واحد، هو أهل السنة والجماعة.
السياسة فيها خطأ وصواب، والعقيدة فيها حق وباطل، وهدى وضلال؛ فمن أجل ذلك اجتمعوا جميعاً على عقائد ثابتة، وضوابط راسخة، وبالذات في قضايا الإيمان، فأي إنسان يريد أن يتكلم في هذه القضية يرينا أولاً ممن يستقي مفاهيمه فإن كان يأخذ من أهل السنة فلن يحتاج إلى الاختراع، ولا إلى إيجاد حدود جديدة، أو ضوابط جديدة للتعامل في هذه القضية مع الناس.
فمن باب احترام التخصص ينبغي أن نعرف علماء العقيدة من علماء أهل السنة والجماعة في العصور المتفاوتة، فقد ضبطوا هذه المسائل وقعدوها بحيث لا نحتاج إلى من يعيد ضبط هذه المسائل من جديد، وما عندنا يكفينا في التعامل مع الواقع بطريقة منضبطة، وطريقة شرعية صحيحة، دون إفراط ولا تفريط.
فنتيجة عدم التفطن لهذا الأمر يقع الخطأ والخلط؛ لأن الناس لا يفرقون بين الاتجاهات الإسلامية الموجودة هناك كتب وعظ ودعوة، وهناك كتب أحكام، فمن الخطأ القاتل أن نأخذ الأحكام من كتب الوعظ أو الدعوة العامة، فكل اتجاه له أسلوبه، وليس كل من أجاد الوعظ أو الخطابة أو تنميق الكلام تؤخذ عنه الأحكام، بل لابد أن يعلم المسلم ماذا يأخذ؟ ومن أين يأخذ؟ ويقول العلماء عن بعض الناس: فلان مستجاب الدعوة، أو لا ترد دعوة هذا الرجل؛ لأنه رجل صالح، ويرون أن دعوته مستجابة، فكما قال بعض الأئمة: إنا لنرد رواية أقوام ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة، فهو رجل أمين وثقة وعدل لكنه غير ضابط، ولا يحفظ جيداً.
فيقول: إنا لنرد رواية أقوام، ونحن نرجو شفاعتهم يوم القيامة؛ لأنهم أناس صالحون.
وقالوا أيضاً: فلان مستجاب الدعوة، مردود الرواية.
فهو لصلاحه وتقواه يرجى قبول دعائه، لكنه لغفلته ولعدم معرفته الجيدة بالرجال ترد روايته.
فهذه بعض التنبيهات قبل أن نخوض بذكر ترجمة عابرة لحياة الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى.