الثاني: كفر الإباء والاستكبار، فهو لا يكذب الرسول، بل يعتقد أنه صادق، وأن الله أوحى إليه، لكن يكفر إباءً واستكباراً عن متابعته، فهؤلاء الذين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، كان هذا هو محل الاعتراض، فهذا هو الغالب على كفر أعداء الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومن كفر الإباء والاستكبار: كفر إبليس، هل إبليس كان يشك في أن الله هو الذي أمره بالسجود؟! كان إبليس يعلم أن الله هو الذي أمره بالسجود لكنه: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فهذا كفر الإباء والاستكبار.
فيمكن أن يعتقد الإنسان أن الله شرع رجم الزانية، لكنه يأبى ويستكبر أو يقدح في حكمة الله عز وجل في هذا التشريع، فهذا أيضاً يصير منضماً إلى أخيه إبليس الذي سن له هذا النوع من الكفر.
كذلك كفر أبي طالب: استكبر عن أن يستمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومشهور عنه قوله وهو يمدح دين النبي عليه الصلاة والسلام: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وأصر على عدم الانقياد لشريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعتقد أنه صادق.
كذلك كفر من كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم من أهل الكتاب، وهذا حال اليهود بالذات.
وهناك حديث اليهودي الذي زنى بامرأة من اليهود، وقال يهودي من بينهم: هلموا إلى ذلك النبي -يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم- الذي أتى بالتخفيف، هم علموا من طبيعة هذه الشريعة أنها تخفف كما قال الله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، اليهود أنفسهم يعلمون هذه الخاصية من خصائص الإسلام، وهو أنه دين التيسير والسماحة والحنيفية السمحة، فلذلك قالوا: لا نرجمهم، بل نذهب إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بشيء دون الرجم أخذنا بكلامه، وحاججنا الله عز وجل يوم القيامة، وقلنا: نحن أخذنا بشريعة نبي من أنبيائك، وأنكروا أن يكون الله قد حكم عليهم بالرجم.
فالشاهد: أن هؤلاء كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول الله حقاً وصدقاً، لكن حسداً من عند أنفسهم حسدوا هذه الأمة أن يصطفيها الله بأن يبعث منها هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي قصة عبد الله بن سلام، وكان من أكبر علماء اليهود في المدينة، لما أسلم وهداه الله عز وجل إلى الإسلام أمره النبي عليه الصلاة والسلام ألا يظهر إسلامه أمام أحبار وعلماء اليهود، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختبأ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فوقف فيهم وقال: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: فما تقولون إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله إنه للنبي الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وأجهلنا وابن أجهلنا)! وأخذوا يسبونه رضي الله عنه.
فشأن اليهود الجحود، فهم يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم حسداً من عند أنفسهم يجحدون ولا يقرون.
وهذا فرعون كان كفره كفر استكبار وعناد وجحود، ففرعون كان يؤمن أن موسى رسول الله حقاً، والأدلة على ذلك معروفة في القرآن، مثل قول الله تبارك وتعالى حاكياً: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ)، يعني: يا فرعون، ونحن نصدق موسى عليه السلام في خبره: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102]، يعني: الآيات، {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وفي سورة النمل يقول الله عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل:14]، كان عندهم يقين، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فهذا هو فرعون، وهو من أكفر خلق الله، ومع ذلك كان يصدق موسى عليه السلام، لكن لم ينقد لدينه وما جاء به من الحق.