يقول ابن القيم رحمه الله وهو يحكي صوراً من تلاعب الشيطان باليهود لعنهم الله: ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالاً، وإذا حرموه صار حراماً، وإن كان نص التوراة بخلافه، وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة، فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
حتى في المناظرات المعروفة ينتقد اليهود والنصارى المسلمين لاعتقادهم أن الله عز وجل له أن ينسخ ما يشاء من آياته وأحكامه، فهم يعتبرون هذا موضع نقد وطعن في الإسلام، فهم عطلوا هذا الحق لله عز وجل: أنه ينسخ ما يشاء، ويبدل ما يشاء من أحكام لمصلحة العباد، ولما يشاء عز وجل من الحكم العظيمة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]؟ بلى.
فهم حجروا هذا الحق ومنعوه عن الله تبارك وتعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأعطوا نفس هذا الحق إلى الأحبار والرهبان، فأقروا لهم بجواز النسخ في الأحكام وتحليل الحرام وتحريم الحلال.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغير شيئاً من شريعته، فلا يحلل ما حرم، ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط، ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعاً لم يشرعها المسيح عليه السلام، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة، وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث: المسلمون، واليهود، والنصارى، كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك.
فنحن اعتقادنا في المسيح يختلف عن اعتقاد اليهود والنصارى، فنعتقد في المسيح أنه عليه السلام نبي ورسول من أولي العزم من الرسل، وأنه عبد الله عز وجل ورسوله، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، كما قال الله عز وجل، إلى آخر العقيدة المعروفة عند المسلمين في حق المسيح عليه السلام.
أما اليهود -والعياذ بالله- فهم يرمون مريم عليها السلام بالبهتان والإثم والفاحشة، وهذه نظرة النصارى أنفسهم للمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهم قد عبدوا المسيح، وألهوه وضلوا فيه ضلالاً مبيناً.
أيضاً هؤلاء اليهود يختلفون معنا في نظرتنا إلى قضية النسخ، فاليهود لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئاً من شريعته أو من أحكامه، والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله عز وجل بآرائهم، أما المسلمون فيعتقدون أن الله جعل له الخلق والأمر، فلا شرع إلا ما شرعه الله على ألسنة رسله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولله تبارك وتعالى أن ينسخ ما شاء بما يشاء، كما نسخ بالمسيح عليه السلام ما كان شرعة للأنبياء قبله قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فهذا نسخ.
فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح عليه السلام، وليس هذا متعلقاً فقط بالأحكام، بل إن أحبار النصارى الضالين قد بدلوا صلب عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام، حتى صار أمراً مقرراً في مجامعهم المقدسة، فبدلوا العقيدة فضلاً عن الأحكام، كما وضع لهم الثلاثمائة والثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريسية وغيرهم.
وفيها أمور لم ينزل الله عز وجل بها كتاباً، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح.
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ثم طفق رحمه الله يذكر بعض الأمثلة على ما أحدثه النصارى من الدين بعدما ذكر تبديل العقيدة من أصلها، وانحرافهم عنها، واخترعوا هذه العقيدة الشركية الوثنية عقيدة الإله والأقانيم الثلاثة، إلى آخر ما وضعوه من الشرك والكفر الأكبر بالله عز وجل، واعتقدوا أن هذا هو قانون الإيمان، ولا يعد مؤمناً إلا من اعتقد به.
فيقول شيخ الإسلام: وكذلك تعظيمهم للصليب، لأن الصليب في زعمهم هو الذي صلب عليه إلههم الذي يعبدونه، وعلى هذا لو أن شخصاً قتل أباك بسكين فتأتي أنت تعبد هذه السكين وتعظمها وتتبرك بها وتقدسها، فهذه نظرتهم: تقديس وتعظيم الصليب بالتعظيم المعروف عند القوم.
أيضاً: استحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، يعني: ما كتبنا عليهم الرهبانية لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
أيضاً: امتناعهم من الختان، وهو تبديل لشريعة الله عز وجل، وتركهم طهارة الحدث والخبث، ولا يوجبون غسل جنابة ولا وضوء، ولا يجتنبون شيئاً من الخبائث في صلاتهم، لا العذرة ولا البول ولا غير ذلك من الخبائث.
هذه كلها من الشرائع التي أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ودان بها أئمتهم وجمهورهم ولعنوا من خالفهم فيها.
انتهى كلام شيخ الإسلام.