لم يقتصر الكاتب في بحثه على المسلك الإجمالي الذي أشرنا إليه، لكنه نحا منحى آخر تفصيلياً، قرر فيه أن لهذا الحد أركاناً ثلاثةً هي: الحكم والولاء والنسك، ثم جعل باقي الكتاب في تفصيل هذه الأمور الثلاثة، فقد جعل الباب الثالث في تقرير ركن الحكم، والباب الرابع في تقرير ركن الولاية، وقرر ركن النسك ضمن الباب الأول، فلم يقف عند حدود الاعتقاد المجمل للألوهية، لاسيما وهو يتكلم في شرح تفصيلي لحد الإسلام، وما يسميه هو أصل الدين الذي يتوقف على الاكتفاء به من البداية ثبوت عقد الإسلام، والذي يطرد تماثله وثباته وعدم تفاوته بالزيادة أو النقص عند كافة المؤمنين، فهو تجاوز الإجمال إلى هذا التفصيل الذي تندرج تحته كافة مسائل توحيد العبادة، ولا يند عنه منها شيء، فيلزم من ذلك أن يسلك أحد مسلكين لا ثالث لهما: إما أن يرجئ الحكم على عامة المسلمين الذين يشهدون الشهادتين، وقد يكون فيهم جهل بهذا المسلك التفصيلي في شرح معنى التوحيد والحكم أو الولاية أو النسك؛ لأن هؤلاء الناس الذين نراهم يملئون المساجد يصلون العيد يخرجون في الجنائز المسلمين الذين نعيش ونحيا بينهم، هؤلاء أتوا بالشهادتين ولم يحصل من الكاتب ومن نحا منحاه عملية استيفاء وجود الأركان التفصيلية: أركان الحكم والولاء والنسك في هؤلاء الناس، فمن جهل بعض هذه الأركان كيف يكون السلوك معه؟ فإما أن يرجأ الحكم على هؤلاء العامة، فلا نحكم لهم بالإسلام حتى نستوثق من استيفائهم لأركان هذا الحد وبراءتهم من الطواغيت، وتجردهم من التلبس بشيء من العبادة لغير الله عز وجل، وموالاتهم للمؤمنين، وبراءتهم من الكافرين، فلا يشهد لأحد منهم بالإسلام إلا بعد التحقق من استيفاء ذلك كله، حتى وإن كانوا قبل ذلك ممن يعلنون الالتزام المجمل بالإسلام، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة.
فهذه هي هو الحالة الأولى: أن هؤلاء الناس لا نحكم عليهم بالإسلام، بل يؤجل الأمر فيهم حتى يتأكد من استيفاء هذه الأركان.
الحالة الثانية: أن يستصحب أصل الحكم بالإسلام على من أعلن الانتساب إليه، ونقول: إن هؤلاء نطقوا الشهادتين، فالأصل فيهم أنهم مسلمون، حتى نكتشف أن هذا الإنسان متلبس بناقض من نواقض هذا الحد، فحينئذٍ نكتشف أنه كان كافراً من قبل، فيكون انتسابه إلى الإسلام وتلفظه بالشهادة مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، لا دلالة على أنه مسلم.
وبناءً على هذا التفصيل: الحكم والولاء والنسك.
كيف نطبقه في الواقع؟ وكيف يكون موقفنا مع عوام المسلمين الذين يصلون ويزكون ويحجون ولم يحصل استيفاء وتحر وتبين مفصل عن موقفهم من قضايا الحكم والولاية وتفاصيل النسك وغيرها؟
صلى الله عليه وسلم نقول له: لن يكون أمامك إلا أحد مسلكين، المسلك الأول: إما أن تقول: هؤلاء لم يدخلوا في الإسلام أصلاً حتى وإن أتوا بهذه الأشياء، إلا بعد استيفاء كل هذه الأركان منهم، ولا تكفي كلمة التوحيد، ولا الصلاة، ولا الزكاة.
المسلك الثاني: أن تقول: إنهم كفار أصليون لم يدخلوا أصلاً في الإسلام، ولا نقول: إن كلمة التوحيد قرينة تومئ إلى أنهم مسلمون، لكن: إذا اكتشفنا بعد ذلك أن هذا الإنسان متلبس بشيء يناقض هذا الأصل الذي هو الإسلام، حينئذٍ يكتشف شيء كان خافياً من قبل، وهو: أن هذا الإنسان الذي عاش ستين سنة ينطق بكلمة التوحيد، يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويفعل شرائع الإسلام المعروفة، ولم يحصل استيفاء وتبين لموقفه من قضايا الحكم والولاية والنسك يكتشف بعد كل هذه السنوات أنه كان كافراً من قبل، ويكون انتسابه للإسلام وتلفظه بالشهادتين مجرد قرينة على استيفائه لحد الإسلام، فإذا ثبت أن هذا الرجل كان يستجيز أمراً من أمور الشرك، فقد دل ذلك على أنه كان كافراً من البداية، وأنه لم يدخل في الإسلام بعد، حينئذٍ يثبت أن هذا كافر أصلي، مثل النصراني أو اليهودي، ولم يدخل في الإسلام أصلاً، فيتوقف الحكم عليه بالإسلام إلى أن يتبين خلاف ذلك، ويبقى الحكم عليه على ما قبل ذلك، وهو أنه كان كافراً.
أما الذين يتلبسون بشيء من نواقض هذا الحد فهم لديه كفار بلا نزاع، ولا فرق في ذلك بين دار الإسلام وبين دار الحرب، ولا بين الجهلة ولا بين العلماء، ولا بين من هو متأول ومن هو معاند، فالكل سواء في هذا الحكم؛ لأن الإسلام -كما ذهب إليه- حد لا توجد صفة الإسلام قبل استيفائه، ومن لم يأت به فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل.