يجب أن نرجع إلى نصوص الكتاب والسنة لنقرر في ضوئها الأصول والقواعد الشرعية في قضية الكفر والإيمان؛ لأن هذه قضية من أخطر القضايا، ولها ما بعدها من الآثار كما نوهنا، فينبغي الاعتماد على النصوص المعصومة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال فهم علماء أهل السنة والجماعة لهذه النصوص، حتى لا نتيه في المتشابهات، أو نضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض، انطلاقاً من اعتقادنا الراسخ بأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، خلافاً للفرق النارية التي انحرفت عن هذا المنهج القويم.
من هذه الحقائق التي ينبغي أن نتفطن لها ونهتم بتوثيقها حقيقة أساسية جداً، وهي: كيف يدخل المرء في الإسلام؟ هذا سؤال جوابه معروف ومشهور لكل مسلم، وهو أنه يدخل في الإسلام بالشهادتين؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أقرّ بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافراً، وقد بينا من قبل تفاصيل شروط الشهادة، فلابد أيضاً من استحضارها هنا، لكن القول المجمل: أن مفتاح الدخول في الإسلام هو الإقرار بالشهادتين، فكل من كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقبل ذلك منه، ويحكم له بالإسلام، ولم تحصل تلك الأشياء التي اخترعها وأحدثها أناس كثيرون من أهل البدع حتى يحكموا على الشخص بالإسلام، من أنه لابد أن يفعل كذا ويفهم كذا، وهذه يتوقف فيها حتى نتبين أنه يفهم التوحيد.
إلى غير ذلك مما اشترطوه من الشروط التي ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان.
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه من يقر بالشهادتين يقبل منه ذلك، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان، إلى أن يؤدي هذه الفرائض ثم يحكم له بعد ذلك بالإسلام، بل يكتفي منه بالإيمان بها، وألا يظهر منه إنكار هذه الأشياء، لكن إذا أتى وقت الصلاة يُعلّم الصلاة ويجب عليه أن يصلي، ويحاسب إذا قصر في ذلك، وإذا حال الحول وكان له مال تجب فيه الزكاة، فيأتي عامل الزكاة ويأخذ منه الزكاة، ويحاسبه إذا قصر، أو يرفع أمره إلى القاضي أو الإمام، وهكذا في سائر الأركان الظاهرة.
أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقنع بالحديد في حال غزو أو استعداد للقتال، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ يعني: أبدأ أولاً بالقتال ثم أسلم، أو أسلم أولاً ثم أقاتل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسلم ثم قاتل، فأسلم، ثم مضى إلى القتال فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عمل قليلاً وأُجر كثيراً).
فلو كان الأمر كما يزعم كثير من الناس الذين يخترعون شروطاً ويحدون حدوداً للإسلام، لقال له النبي عليه الصلاة والسلام: انتظر حتى نستوفي منك أمور العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وكذا وكذا مما يشترطونه ويحدونه! لكنه قبل منه الإسلام بالشهادتين، وكان واجب الوقت أن يبادر بالجهاد في سبيل الله فقتل، وبذلك شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نجا بهذه الكلمة التي قالها.
أيضاً: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي رواه البخاري وغيره أن أسامة قتل رجلاً شهر عليه السيف، وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل أصاب نكاية شديدة في المسلمين، وكان له قوة وبطش شديد في القتال حتى أنه قتل كثيراً من المسلمين، فلما اقترب منه أسامة ليقتله شهد أن لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ذلك أشد الإنكار، وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: إنما قالها تعوذاً من السيف، فقال: هلا شققت عن قلبه؟!) وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، رواه مسلم، ومعنى: (حسابهم على الله)، يعني: أقبل منهم ظاهرهم، أما حقيقة ما في قلوبهم فحسابه على الله.
وفي رواية لـ مسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)، وفي البخاري عن أنس مرفوعاً: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله).
والمقصود بالناس هنا مشركو العرب، كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه؛ لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فالشاهد: أن هؤلاء المشركين من العرب إذا قالوا لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام وصاروا معصومي الدماء والأموال؛ لأن الشخص المعصوم في المجتمع الإسلامي إما أنه معصوم بسبب الإسلام، أو معصوم بالعهد والذمة، فلا يجوز أن تخفر ذمته.
وهذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) إلخ، هو من الأحاديث المتواترة؛ فقد رواه خمسة عشر صحابياً، ومعلوم أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، أي: قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة، وهذا الكلام مروي عن سفيان بن عيينة رحمه الله، وهو أحد أئمة الحديث المشهورين، فما الجواب عن هذه الشبهة؟ بأن ممن رووا هذا الحديث بعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم جداً، ومنهم أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا لم يكن في أول الإسلام فقط، ثبت أيضاً بعد الهجرة بزمن.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة رضي الله عنه قتله لمن قال لا إله إلا الله، لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشرط على من يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قَبِل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا، كما جاء في بعض الأحاديث أن ثقيفاً اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فسيتصدقون ويجاهدون)، فقبل ذلك منهم، ثم بعد ذلك صح إسلامهم مع هذا الشرط الفاسد، ومع ذلك فقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم إذا قوي إيمانهم ورسخت قدمهم في الإسلام فسيتصدقون ويجاهدون.
وعن نصر بن عاصم الليثي، عن رجل: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه)، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى طبقاً لهذه الأحاديث: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ويثبت له الإسلام، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها بعد ذلك.
الشاهد: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين, وكون بعض الأحاديث اشترطت الشهادة الأولى -لا إله إلا الله- فهذا من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة، أو لأن المقصود في الحديث هنا: (أمرت أن أقاتل الناس) هم مشركو العرب، ولم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إنما يقولها استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويلزم معها أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول بعض السلف: الإسلام الكلمة -يعني: كلمة الشهادة- أن الكلمة هنا من باب (وكِلْمة بها كلام قد يؤم).
أما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلماً، إذ الصلاة والصيام والزكاة وكل هذه الأفعال لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم، أما الكافر فلا صلاة له ولا صيام ولا حج لفقدانه شرط القبول وهو الإسلام.