الأدلة على عدم تكفير العصاة

عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف! فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك)، الشاهد هو: دخول بعض أهل المعاصي تحت المشيئة، هذا لا يكون إلا للمسلم.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ألا يعذبهم).

في رواية أخرى لـ مسلم فيها هذه الزيادة، قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، يعني: يعتمدوا على ذلك ويتركوا التنافس في الأعمال الصالحة.

ولو أن معاذاً رضي الله عنه فهم أن هذا النهي للتحريم لما أخبر بهذا الحديث، لكنه فهم أن هذا النهي عن التبشير ليس للتحريم، ولذا أخبر به عند موته تأثماً وخوفاً من كتمان العلم.

أيضاً من الأدلة على عدم تكفير العصاة: إقامة الحدود، فالله تبارك وتعالى شرع كثيراً من الحدود في بعض المخالفات، والأدلة متواترة على ذلك في القرآن والسنة والإجماع.

ومن أهم هذه الحدود: حد الزنا: فالمحصن يرجم، والبكر يجلد مائة جلدة ويغرب عاماً أو الجلد فقط على خلاف، شارب الخمر يجلد من أربعين إلى ثمانين جلدة، وغير ذلك مما فيه حد.

وهذه هي حدود الله تبارك وتعالى التي يعطلها الناس في هذا الزمان، وربما خرجت منهم عبارات تخرجهم تماماً من الملة من وصف الحدود الشرعية بأنها عقوبات وحشية، أو نحو ذلك من هذه العبارات الفظة المكفرة لمن يقولها ويعتقدها.

وهؤلاء الذين يقننون القوانين يخدعون الناس بمثل هذه العبارة: الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، وهي كما قال بعض العلماء في مناسبة من المناسبات: إن كلمة: الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، تعني بالضبط كما لو قال قائل: إن الله تبارك وتعالى هو الخالق الرئيسي لهذا الكون.

والمعنى: أن هناك خالقين آخرين مع الله، وهناك شركاء مع الله تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يحلون ويحرمون ويعطلون حكم الله تبارك وتعالى؛ فالتشريع حق لله عز وجل وحده.

والشرك في العبادة تماماً نفس الشرك في الحاكمية أو في الأحكام، قال الله تبارك وتعالى في العبادة: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال عز وجل في الحكم: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، كما لا يقبل أن يشرك به في العبادة كذلك لا يقبل أن يشرك به في الحكم، قال عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

السارق تقطع يده، القاتل يقتل، السن بالسن، العين بالعين، الإصبع بالإصبع، وكذلك سائر الجروح، المحاربون تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، والمرتدون يقتلون: (من بدل دينه فاقتلوه) التعزير هو عقوبة من الإمام فيما لا حد فيه.

فإذاً: لو كان هؤلاء كفاراً لماذا تفاوتت الحدود في النوعية والمقادير؟ إن تفاوت الحدود واختلاف أنواعها له دلالة، حتى القتل هل يقتل ردة أم يقتل حداً؟ فإن كان مسلماً قتل حداً، وبالتالي تجري عليه سائر أحكام المسلمين بعد قتله، من كونه يغسل ويصلى عليه ويورث ويدفن مع المسلمين، أما إذا قتل ردة فيعامل بعد قتله معاملة الكافر والمرتد.

هذا أحد الأدلة أيضاً التي يستدل بها أبو عبيد في رده على الخوارج في كتاب الإيمان: ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم -أي: الخوارج- وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوبتهم القطع والجلد، وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوماً: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو وأخذ دية ولكنه القتل، لو أن القاتل كفر بالقتل لما وجب في حقه إلا حد الردة؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه)، لكن الله عز وجل وسع في الأمر، وجعل لولي المقتول سلطاناً: إما أن يعفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178]، وإما أن يقبل الدية، وإما أن يصر على أن يقتل كما قتل قريبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015