إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي أثبتته الآيات القرآنية والسنن النبوية، ودرج عليه السلف الصالح والصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة التفسير والحديث والسنة: أن العصاة من أهل التوحيد على ثلاث طبقات: الطبقة الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فهؤلاء سيدخلون الجنة من أول وهلة ولا تمسهم النار أبداً، اللهم اجعلنا منهم.
الطبقة الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم وتكافأت، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار.
فالسيئات التي فعلوها منعتهم من دخول الجنة، والحسنات التي فعلوها لم تجاوزهم عن النار، فهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة، كما ذكر تبارك وتعالى ذلك بعد أن دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، كما في سورة الأعراف يقول تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45] بعض الناس يستغربون: كيف ستتم مخاطبة أهل الجنة وأهل النار؟ هناك آيات كثيرة في القرآن تدل على وقوع التخاصم والأخذ والرد بين الطرفين، سبحان الله! إن كان في الدنيا هنا يستطيع إنسان وهو في مكان آخر ومن خلال الشاشات التلفزيونية أو تليفونات أن يرى من يكلمه على جهاز التلفون، فالله سبحانه وتعالى أقدر من البشر بلا شك على أن يقع هذا بقدرته تبارك وتعالى.
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46]، يعني: هذا السور الذي بين الجنة والنار {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:46 - 49]، فهذه الطبقة الثانية تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وهم أصحاب الأعراف.
الطبقة الثالثة: قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش.
إن التوبة من كل ذنب مقبولة، لكن بشرط أن تأتي في زمان التوبة، والتوبة لها أجلان: أجل في حق عمر الإنسان، وأجل في حق عمر الدنيا، فالتوبة بالنسبة لعمر الإنسان تقبل منه ما لم يغرغر غرغرة الروح حين الاحتضار وخروج روحه، فالتوبة ساعتها لا تنفع ولا تقبل، أما في حق عمر الدنيا؟ فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
فمن لقي الله تبارك وتعالى وهو مصر على المعاصي دون أن يتوب منها ومعه أصل التوحيد، فترجح سيئاتهم على حسناتهم، هؤلاء هم الطبقة الثالثة الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم فوق ذلك، حتى إن منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود، فحسب المعاصي يتفاوت حظهم من النار والعياذ بالله.
ولما يذكر مثل هذه الأشياء حذار أن يتخيل الإنسان أن هذا الكلام لغيرنا، كأن الحق فيه على غيرنا وجب، وكأن الموت فيه على غيرنا كتب، فالإنسان يستحضر أنه ربما إن لم يرحمه الله تبارك وتعالى يكون من هؤلاء الهالكين والخاسرين، فالله عز وجل حرم على النار أن تأكل أثر السجود، فمنهم من تأكل النار كل جسده إلا أثر السجود، وهؤلاء هم الذين يأذن الله تبارك وتعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء من بعده، والأولياء والملائكة ومن شاء الله أن يكرمه.
فعادة أهل البدع والضلال أنهم يؤصلون أصولاً موافقة لأهوائهم ثم يتحكمون بها في نصوص الشرع، فلذلك تجد الخوارج المبتدعة لما وجدوا أحاديث الشفاعة مع أنها أحاديث متواترة تصدم عقيدتهم وأصلهم الذي أصلوه، وتثبت أن هناك قوماً يدخلون النار ثم يخرجون منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين أو برحمة الله، فلذلك كذبوا بأحاديث الشفاعة بالكلية.
المقصود أن هؤلاء الذين ماتوا مصرين على بعض الكبائر والمعاصي يشفع الله تبارك وتعالى فيهم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره، فيحد لهم حداً فيخرجونهم، ثم يحد لهم حداً آخر فيخرجونهم وهكذا، فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير، ثم برة، ثم خردلة، ثم ذرة، ثم أدنى من ذلك إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيراً، أي: لم يبق في جهنم أحد في قلبه حتى أقل من أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من الخير، ويخرج الله تعالى من النار أقواماً لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين، ولن يخلد في النار أحد من الموحدين ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيماناً وأخف ذنباً كان أخف عذاباً في النار، وأقل مكثاً فيها، وأسرع خروجاً منها، وكل من كان أضعف إيماناً وأعظم ذنباً كان بضد ذلك والعياذ بالله، والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة، وأشار إلى هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، فهذا يفهم منه أن من مات على التوحيد، وكان عنده بعض هذه الذنوب التي لم يتب منها، فربما أصابه ما يصيبه من العذاب عند الاحتضار عند خروج الروح أو في القبر أو في البرزخ أو في أهوال يوم القيامة أو بالنار نفسها والعياذ بالله، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر، يصيبه قبل ذلك ما أصابه)، هذا مقام ضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
بقي الكلام على مسألة واحدة من هذه المسائل الستة ويتبقى في نفس هذه المسألة كلام مهم جداً للإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في الجمع بين النصوص المتقابلة والتي احتج بها كل فريق من المرجئة أو الخوارج والمعتزلة.