ما زلنا في استعراض المباحث الستة المتعلقة بمسائل الإيمان والكفر، وأنهينا الكلام فيما سبق على فاسق أهل القبلة، وأن الفاسق من أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم فينفى عنه الإيمان بالكلية، وإنما يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه وما معه من التصديق، فاسق بكبيرته ومعصيته، وذكرنا أمثلة كثيرة على أن الكفر والفسوق والعصيان والظلم والنفاق والشرك منه ما يخرج من الملة ومنه ما هو دون ذلك، فهناك كفران: كفر أكبر يخرج من الملة، وكفر دون كفر، وكذلك النفاق والشرك وغير ذلك.
والاعتقاد بعقائد الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة شذوذ، وهذا من أكبر الضلال الذي يستوجب فساد العقيدة، وبالتالي دخول النار.
فقد روى أبو داود والدارمي والإمام أحمد والحاكم وغيرهم عن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة) قال الحاكم بعد أن ساق أسانيده: هذه الأسانيد تقام بها الحجة.
وصحح بها الحديث، ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو حديث صحيح مشهور، وصححه الشاطبي في الاعتصام وغيره من العلماء.
إلا أن الشيخ صديق حسن خان في كتابه: (يقظة أولي الاعتبار) ذهب إلى أن هذه الزيادة في آخر الحديث: (كلها في النار إلا واحدة)، قال: هذه زيادة ضعيفة، ونقل تضعيف هذه الزيادة عن شيخ شيوخه الشوكاني، ومن قبله ابن الوزير، ومن قبله أيضاً ابن حزم، واستحسن قول من قال: إن هذا الزيادة من دسيس الملاحدة؛ فإن فيها التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه، وهذا غير صحيح من الناحية الحديثية، فالنقد العلمي الحديثي كما قال بذلك الجهابذة المحققون دل على صحة هذه الزياد: (كلها في النار إلا واحدة) فلا عبرة بقول من ضعفها إذا كان ليس من أهل العلم الراسخين في علم الحديث، كما قال الإمام الحافظ العراقي رحمه الله في ألفيته: فاعن به ولا تخضن بالظن ولا تقلد غير أهل الفن قوله: (فاعن به) أي: علم الحديث.
فينبغي للحكم بالتصحيح والتضعيف أن يتحرى اتباع أهل فن وعلم الحديث الخبراء فيه، وإلا يكون غير ممتثل تلك البيعة التي بايع عليها الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، فيترك الأمر لأهله أهل الحديث؛ إذ هم الذين يتكلمون، فعلماء الحديث صححوا هذا الحديث، والتقليد الذي أشار إليه الحافظ العراقي ليس هو التقليد المذموم في الفقه الذي هو أخذ قول غيره بغير دليل في المسائل الفقهية، لكن التقليد هنا من باب قبول شهادة هذا العالم أو الإمام الذي حكم بالتصحيح؛ لأن قول الإمام العراقي أو غيره من الأئمة: هذا الحديث صحيح، يعني: أنه تحرى وتتبع طرق الحديث ورجاله إلى أن حكم عليه بهذه الصحة.
المقصود أن من صحح هذه الزيادة أكثر وأعلم من ابن حزم، خاصة أنه معروف عند أهل العلم بالتشدد في نقل الأحاديث، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف وقد خالفه هؤلاء الأئمة.
أيضاً ابن الوزير يرد هذه الجهة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، قال: إن فيها تنفيراً عن دخول الإسلام.
وهذا يقتضي أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، بينما النصوص الثابتة الصحيحة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير، وأنهم سيبلغون نصف أهل الجنة.
كيف يكون الجواب؟ يجاب عليهم أولاً: بأن الثلاث والسبعين فرقة كلهم من أهل القبلة، ولكن الفرقة الواحدة التي هي أهل الجماعة يدخلون الجنة، ولكن الفرق الاثنتين والسبعين لها نصيب من النار، وسوف يدخلون الجنة.
ثانياً: أنهم لا يخلدون في النار.
ثالثاً: ليس معنى أن الأمة ستنقسم إلى ثلاثة وسبعين فرقة أن يكون أكثر هذه الأمة في النار؛ لأن أكثر هذه الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، وعدد الفرق الضالة بالنظر إلى مؤسسيها والذين يضعون قواعدها وأصولها قليل؛ فهؤلاء هم الذين يشذون ويستحقون ذلك الوعيد، أما العوام فهم من أهل السنة، وما من شك أنهم الأغلبية في كل عصر وفي كل مصر.
رابعاً: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من المسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهؤلاء الذين يتبنون أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها تركوا من أجلها نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة.
أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فكونهم يختلفون في مسألة من المسائل أو مسألتين فليسوا بذلك يعدون فرقة من الفرق.
خامساً: هذه الزيادة، وهي: قوله صلى الله عليه وسل (كلها في النار إلا واحدة)، دلت على أن الفرق المخالفة في النار لكنها لم توجب لها الخلود في النار، مع أن بعض هذه الفرق لديها بعض البدع التي تكفر وتخرج من الملة وتخلد أهلها في النار، كغلاة الشيعة الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر كالإسماعيلية والنصيرية والبهائية ونحو ذلك، حتى إنه وجد في مصر من طالبوا بأن يوضع في خانة الديانة في البطاقات الشخصية بدل مسلم يكتب: بهائي، وهذا مما طالب به بعض البهائية منذ زمن.
المقصود أن أهل هذه الفرق الذين شذوا عن أهل السنة والجماعة لا يستوجبون بذلك في كل الأحوال الخلود في النار، بل منهم فرق قليلة تخرج من الإسلام بالكلية وتستوجب الخلود في النار كهذه الفرق، ومنهم من خالف أهل السنة في مسائل عظيمة كبيرة من مسائل أصول الدين، لكنها لا تصل إلى حد الكفر.
فهؤلاء وإن لم يكن لهم وعد مطلق بدخول الجنة، لكنهم تحت مشيئة الله تبارك وتعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وقد تكون لبعضهم أعمال عظيمة صالحة تنجيهم من النار، وقد يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين تبارك وتعالى.
يوجد قسم من الفرق التي تستوجب دخول النار بسبب الذنوب ولا يخلد أصحابها في النار وإن دخلوها بسبب هذه الذنوب.