(يسع بفضله الخلق) : وهذا إثبات أيضاً للصفة الفعلية في قوله: (يسع الله سبحانه وتعالى) ، وقد وصف نفسه بأنه هو الواسع، وقد جاء ذلك في حديث أبي هريرة من الأسماء التسعة والتسعين، والمقصود به أن عطاءه يتسع لحوائج الناس، فيعطي قبل المسألة، ويعطي بعدها ولا ينقص ذلك شيء من عطائه وفضله، ففضله هو الواسع المحيط بكل من يحتاج، والفضل هنا المقصود به الكرم والبذل، وذلك أن جميع نعم الله سبحانه وتعالى هي من التفضل الذي يتفضل به على عباده.
وليس شيء من نعم الله مستحقاً على الله، فقد ذكرنا أن من القواعد المهمة لدى أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء.
وهذا مخالف لمذهب المعتزلة كما سبقت الإشارة إليه، وسنذكر هنا مزيد إيضاح له، فإنهم يرون وجوب الصلاح والأصلح على الله سبحانه وتعالى، ولما كان سبحانه وتعالى يتفضل على الناس بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقتضى ذلك أن نعلم أن الجنة لا يمكن أن تنال بالأعمال، ولا يمكن أن يدخل أحد الجنة بعمله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) والآيات الكثيرة التي فيها: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] فالباء التي فيها ليست للعوض، وإنما هي للسببية.
والباء ترد لأربعة عشر معنىً قد أشرنا لها من قبل، فمن معانيها السببية، فهذا العمل سبب لدخول الجنة، وهو الكسب الذي كان يكسبه بعمله، فيكون سبباً لدخول الجنة، وذلك مثل أعمالنا اليوم فإنها ليست عوضاً لرزقنا، وإنما الرزق بفضل الله سبحانه وتعالى والأعمال هي سبب في الرزق فقط.
فالأعمال لا تضمن الرزق للإنسان، بل نشاهد كثيراً من الناس يعملون، ولا يتركون مجالاً من مجالات الارتزاق إلا تعبوا فيه، ومع ذلك لا ينالون شيئاً، ونجد أن آخرين يرزقون من دون أن يبذلوا أي سبب، كم رأينا من الناس ممن أتعب عمره وأفناه في طلب الرزق فما حصل على فائدة، وكم رأينا من الناس ممن جاءته نفحة من نفحات الله وهو غير متسبب في أي شيء، وكم شاهدنا من أنواع الحيوانات التي لا تقدر على أي اكتساب ومع ذلك يأتيها رزقها في مكانها: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] .
فإذا كان الأمر كذلك؛ فإننا نعلم أن الأسباب التي نتسبب بها كحراثة الأرض، وكالبناء، والأعمال إنما هي أسباب فقط، لكنها لا تضمن مسبباتها.
وكذلك الأعمال الصالحة الأخروية فهي بمثابة الأعمال الدنيوية في أنها سبب للنجاة يوم القيامة، وسبب لدخول الجنة لكنها لا تضمنها، فمن يضمن لك قبول عملك، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل ما يشاء ويرد ما يشاء: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولو عاش الإنسان عمراً في طاعة الله، لم يجب على الله أن يتقبل شيئاً من عمله؛ لأن العبرة بالخواتيم فقد يكون غير مخلص، وقد يبتلى بسوء الخاتمة، ويكون ذلك سابقته التي علم الله في الأزل، ومن هنا علم أن الباء في الآيات كلها للسبب، وأن الباء في الحديث للعوض: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) أي عوض عمله.
(يسع بفضله الخلق) : والخلق المقصود به المخلوقات، فهو مصدر في الأصل لكنه يطلق على اسم المفعول، والمقصود به: كل ما خلق الله، فكل ما خلق الله يسعه بفضله، حتى الكفار فإن الله تعالى لديه من أنواع العذاب الأليم وتعجيله ما صرف عنهم، فقد أخر عنهم العذاب في الدنيا وأملى لهم: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] فنالوا حظهم بفضله، حيث تفضل عليهم بخلقه، وبالعافية، وبالمال والأولاد وغير ذلك، لكن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ومنهم إبليس فقد عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، وسلط على من سلط عليه من أهل الدنيا؛ لكنه لا حظ له يوم القيامة.