أما الكلام اللفظي -وهو الشق الثاني من شقي الكلام- فإن الأشعري رحمه الله ذكر أن الكلام اللفظي ليس صفة الله، بل قال: القرآن فيه صفة الله وصفة عدو الله، وضرب لذلك أمثلة: فمن صفات الله في القرآن: قول الله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1-2] ، وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، وغير ذلك من الصفات.
وفيه صفة عدو الله، كقول الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] ، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11-16] ، فهذه صفة عدو الله.
لكن لم يفهم كلامه هذا عدل على الصحيح، فتلقفه أصحابه من غير فهم، فظنوا أنه يقصد أن الكلام اللفظي ليس كلام الله، وهو لم ينف أن يكون كلام الله، إنما نفى أن يكون صفة الله، وشتان بين الأمرين، فظنوا أنه يقصد أن هذا الكلام اللفظي ليس من كلام الله، وأن إطلاق الكلام عليه مجاز، وأن المقصود به لازمه، فيقولون: معنى كون القرآن كلام الله: أنه دال على كلام الله، أو دال على مدلول كلام الله، فقد يكون دالاً على كلام الله مباشرة بأن يكون الكلام منسوباً إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] ، أو على مدلول كلام الله، كما إذا كان الكلام محكياً، كقول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] ، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ، وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، فالكلام المحكي هنا ليس من كلام الله، لكن كلام الله دل عليه، بمعنى: استوعبه.
والبحث هنا ينبغي فيه التدقيق؛ حيث نقول: إن الكلام اللفظي كلام الله تكلم الله به، وضمنه كلام من شاء من خلقه، فحكى ذلك الكلام عن خلقه، لكنه في حكايته لكلام الخلق إن كان الكلام مرضياً عنده أدرجه دون أن ينسبه لغيره، وإن كان الكلام غير مرضي عنده نسبه إلى قائله؛ ليدل بذلك على أنه ليس من كلام الله، وليس مرضياً عنده.
فإن كان مرضياً عنده أدرجه في كلامه، كقول الله تعالى في سورة مريم عندما حكى كلام الملائكة عليهم السلام: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:59-64] ، معناه: وتقول الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا * وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:62-67] .
وقوله: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ} [مريم:66] ، حين لم يكن كلام الإنسان مرضياً صرح بنسبته إلى الإنسان، ولما كان كلام الملائكة مرضياً عند الله لم ينسبه إليهم، فلم يقل: وتقول الملائكة كما قال: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ} [مريم:66] ، ونظير هذا كثير في القرآن، فكثيراً ما يأتي اللفظ المرضي عند الله تعالى دون نسبة.
وقد يوقع بعض المفسرين ذلك في اختلاف، فمثلاً: قول الله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ، اختلفوا فيه هل هو من الكلام المحكي عن امرأة العزيز أو ليس كذلك؟ لأنه محفوف بكلامها من قبله ومن بعده, فقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف:53] ، هذا من كلامها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) هذا تقرير من الله تعالى: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] ، هذا أيضاً من كلامها.
وكذلك قوله تعالى حكاية عن ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34] ، فقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديق من الله تعالى لكلامها المحكي.