كذلك من الإيمان بها: الإيمان بأن ما فيها من الأحكام ما نسخ منه بالقرآن لم يعد صالحاً للعمل به، ولا يجزئ بين يدي الله؛ لأن الله أخبر بذلك في كتابه في قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] .
مع ذلك فهذه الكتب المنزلة ينبغي أن نعلم أن فيها أمراً يخفى على كثير من الناس، وهو أن رسل الله ينقسمون إلى قسمين: إلى رسل قد جاءوا بشرائع جديدة، وإلى رسل قد جاءوا مكملين لشريعة سابقة، والجميع يصدق عليه قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] .
فلا تنافي بين أن يكون الرسول مجدداً لشريعة من قبله، وبين أن يكون له شرعة ومنهاج، والشرعة والمنهاج الذي أوتيه مكمل ومتمم لشرع من قبله.
ويتفاوت فضل الرسل بذلك، فأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم، أوتوا شرائع جديدة.
ولا منافاة بين هذا وبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته باتباع ملة إبراهيم؛ لأن الملة إنما يقصد بها في أغلب إطلاقاتها: ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، لا ما يتعلق بالتشريعات.
ولهذا فإن خصال الفطرة من ملة إبراهيم، والضيافة من ملة إبراهيم، والغسل من الجنابة من ملة إبراهيم، وعقد النكاح من ملة إبراهيم، وكذلك الحج أصله من ملة إبراهيم.
ومن ملة إبراهيم عدم الدعاء على قومه، والحلم عنهم والصفح، وهذا أبرز شيء أخذ به الرسول الله صلى الله عليه وسلم من خلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فكثير من الأنبياء الآخرين جاء في القرآن التصريح بدعائهم على قومهم، وبالهلاك الذي حصل لقومهم.
وقوم إبراهيم لا يدري أحد ماذا حصل لهم، ولا يستطيع أحد الآن أن يقول: إنهم أُهلكوا بالوصف الفلاني، فتجد إهلاك قوم نوح وهم قبلهم، وإهلاك قوم موسى وهم بعدهم، وأقوام غير هؤلاء من الرسل، كقوم شعيب وقوم لوط وصالح هود، لكن قوم إبراهيم لم تذكر أخبار هلاكهم، وإنما يعرف أن الله أنجى إبراهيم عليه السلام، وأن النار كانت برداً وسلاماً عليه، وأنه هاجر عنهم.
وعلى هذا تكون الكتب بعضها مجدداً كالزبور؛ فإن جمهور المفسرين يذكرون أن هذا الكتاب ليس فيه تشريعات جديدة لبني إسرائيل، وإنما فيه المواعظ والحكم وأذكار يذكرون الله بها، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] ، فبعد ذكر الله الذي فيه جاء فيه أحكام، منها حكم الله النافذ وسنته الكونية التي لا تتغير: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] .