فمن الإيمان بالرسل الإيمان بصدقهم، فلا يجوز في حقهم الكذب فيما يبلغونه عن الله، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يستحيل في حقه الكذب، وقد صدقهم بالمعجزات، وتصديق الكاذب كذب، فكذبهم يستلزم نسبة الكذب إلى الله تعالى الله عن ذلك، فاقتضى هذا نفي الكذب عنهم بالكلية فيما بلغوه عن الله سبحانه وتعالى فهم معصومون من الكذب.
ثانياً: الأمانة، فالله قد اختارهم وائتمنهم على الوحي، ولذلك قال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: صدقناك في خبر السماء أفلا نصدقك في خبر الأرض، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأمين من في السماء) .
قال: إن الله سبحانه وتعالى ائتمنه فهو أمينه، وفي السماء معناه: العلي.
والثالثة: التبليغ أي: تبليغ الرسالات؛ لأن الله توعدهم على ترك التبليغ فوجب أن يكونوا قد بلغوا أنه قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] .
وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] .
وهذه من الكلمات التي سبق التنزيل بها، فقد قرئت في السبع (رسالاته) وقرئت (رسالته) .
فيستحيل في حقهم أضدادها وهي الكذب والخيانة والكتمان، لكن التبليغ لا يجب عليهم أن يبلغوا جميع أممهم؛ لأن الله جعل لهم أعماراً محددة يموتون فيها، فيجب على الرسول أن يبلغ من تقوم بهم الحجة سواء كان واحداً أو أكثر.
فالحجة قد تقوم بواحد إذا كان عدلاً ضابطاً؛ لأن روايته معتبرة، ولهذا فكثير مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انفرد به واحد، وإن كان القرآن لم يحصل فيه هذا إلا في آيتين اثنتين منه، لم يوجد من كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خزيمة بن ثابت وشهادته بشاهدة رجلين، وهي خاتمة سورة التوبة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128-129] .
هاتان الآيتان انفرد بكتابتهما خزيمة وإن كان غيره قد حفظهما، لكن الحفظ لم يعتمد عليه في تدوين المصحف لاحتمال أن يكون قد نسخ في العرضة الأخيرة، وأما الكتابة فإنها مقتضية للإقرار في العرضة الأخيرة.
(فأدوا عنه) أي: عن الله سبحانه وتعالى.
(ما به أمر) أي: ما أمرهم ببيانه وتبليغه، فقد ينزل إليهم شيء لا يؤمرون بتبليغه، وقد ينزل إليهم شيء فيؤمرون بتبليغه إلى شخص بعينه، كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي سورة البينة.
والقاعدة هي ما ذكرناه أنه لا يجب عليهم تبليغ كل أحد، بل يجب عليهم تبليغ من تقوم بهم الحجة، وهذه التي نظمها شيخي رحمها الله بقوله: لا يلزم الرسول أن يبلغ جميع ما علم مما بلغ بل كان يكفيه إذا ما أنفق مرويّه واحداً أو ما اتفقا وهذا لفظ القاعدة في كتب التفسير: أنه إذا بلغ مرويه إلى شخص واحد تقوم به الحجة فذلك كاف؛ لأنه هو المؤتمن عليه يبلغه لمن وراءه.
وقد شرط التبليغ على الاتباع، فكل قوم يشترط عليهم تبليغ ما تعلموه لمن وراءهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع) وقال: (بلغوا عني ولو آية) ، وقال: (نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة عدول يؤدي كل جيل ما تحمل إلى الجيل الذي بعده.
(فأدوا عنه) أي: عن الله سبحانه وتعالى (ما به أمر) أي: ما أنزل عليهم مما أمرهم بتبليغه إلى الناس.