يقول الشيخ حفظه الله: [قد استوى إلى السماء واستوى بعد على العرش بخلف المحتوى] هذه صفة أخرى هي صفة الاستوى وهي من الصفات الفعلية، وهي على نوعين: النوع الأول: المعدى بإلى، والنوع الثاني: المعدى بعلى فالنوع الأول: المعدى بإلى، جاء في السماء في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] والاستواء المعدى بإلى هو بمعنى التوجه والنظر، وأما الاستواء المعدى بعلى فمعناه الاستقرار والثبات.
وأما استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه فلا يفسر، فهو من الصفات الثابتة التي قراءتها تفسيرها ولا يجوز تفسيره بأي شيء؛ لأننا لا علم لنا بهذا؛ فلهذا من فسره بما فسرنا به الاستواء في اللغة فقد ابتدع، فمن قال: استوى على العرش بمعنى: استقر عليه أو نحو هذا فقد ابتدع في دين الله، فلم يرد هذا عن أحد، بل قال الإمام أحمد: (لا كيف ولا معنى) .
لكن يكون الاستواء معلوماً إذا سئل عنه في اللغة العربية، فيقال: يطلق الاستواء على الاستقرار والثبات، لكن تفسيرها في الآية قراءتها، ولا يتعدى ذلك.
و (استوى إلى السماء) ليست مثل الاستواء على العرش والتفريق واضح؛ لأن هذه عديت بإلى وهذه عديت بعلى؛ فلهذا قال: (قد استوى إلى السماء واستوى بعد على العرش) وهذا الاستواء بعلى بخلف المحتوى، ومعنى ذلك: أنه مع اختلاف الاستواءين في التفسير فالاستواء المعدى بإلى قيل: معناه النظر والتوجه، فقد خاطب الأرض أولاً ثم خاطب السماء بعدها، خاطبهما بكلام يشملهما، ثم خاطب الأرض بتكوينها حيث بدأ بتكوين الأرض، ثم بعد ذلك كون السماء، وقوله: (بخلف المحتوى) المحتوى معناه: ما تحتويه الصفة من المعنى، والمقصود هنا: بخلف المعنى، فالمحتوى هو: المعنى، وهو من (احتوى الشيء) بمعنى جمعه، والمقصود بذلك: جمع اللفظ للمعنى.
قال: [وليس كاستوائنا نحن على الـ فلك والانعام بل العرشَ حَمَلْ وحامل] فهذا الاستواء الذي هو صفة الله سبحانه وتعالى يجب اعتقاد تنزيهه عن أن يكون مشابهاً لاستواء المخلوقين على فرشهم، أو على الفلك: وهو السفن، أو على الأنعام التي يركبونها، فالله سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن من شأن الحامل أن يكون أكبر من المحمول، والله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنه هو المتصف بصفة الكبر والكبرياء والكِبَر، فهو أكبر من أكبر خلق من خلقه، فلا يمكن أن يحده ولا أن يحيط به ولا أن يكون أكبر منه شيء أبداً، ولا يمكن أن يقارن بشيء من خلقه سبحانه وتعالى، فلهذا احتاج إلى التصريح هنا بنفي التشبيه.
إذاً: لا يتوهم أن هذه الصفة تقتضي أن الحامل أكبر من المحمول، بل قال: (وليس كاستوائنا نحن) أي: البشر (على الفلك) والفلك: جنس وهو السفن، ومنه قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:12] فالفلك: السفن، (والأنعام) أي: الدواب التي يركبها الناس.
(بل العرش حمل وحامل) بل الله سبحانه وتعالى هو الذي رفع العرش وهو الذي يحمله ويحمل حملته، فهذا رد على ما يتوهم من أن الحامل أقوى من المحمول أو أعظم منه، فحملة العرش على عظمهم، والعرش الذي هو أكبر منهم، هم محمولون، والله سبحانه وتعالى هو الذي حمل الجميع، فهو الذي خلق العرش وخلق حملته وحملهم ورفعهم، فلا يمكن أن يتصور أبداً حاجته إلى شيء من ذلك، فإنه لا يحتاج إلى العرش ولا إلى حملة العرش فهو العلي القدير.
وبالنسبة لحملة العرش فقد ورد في عددهم وفي صفتهم أشياء، فورد في عددهم يوم القيامة قول الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وجاء في الحديث: أنهم اليوم أربعة وأنهم يوم القيامة ثمانية، وجاء في حديث العباس وصفهم بالأوعال وأن ما بين شحمة أذن أحدهم وبين منكبه مسيرة خمسمائة عام.
وحديث الأوعال فيه ضعف، لكن مع ذلك له طرق أخرى، وجاء أيضاً في وصف حملة العرش وصف عظمهم، لكن عموم وصفهم بالأوعال لا يقتضي إثبات صفة الوعلية لهم، وإنما هو مجرد مثَل من تصورهم، ولذلك ذكر فيهم هذه الصفة العظيمة العجيبة: أن ما بين شحمة أذن أحدهم وبين منكبه قدر ما بين السماء والأرض، أي خمسمائة عام.