كما يحتاج الناس إلى البحث فيها حتى في معادلة الأقوال، فإن الأصوليين يبحثون فيها في العمل بالضعيف فقط، يقول سيدي عبد الله بن الحافظ إبراهيم في مراقي السعود: وذكر ما ضعف ليس للعمل إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل بل للترقي في مدارج السنا ويعرف المدرك من به اعتنى وكونه يلجي إليه الضرر إن لم يكن يشتد فيه الخور وثبت العزو وقد تحقق ضر من الضر به تعلق وهنا يقول: إن العلماء ذكروا الأقوال الضعيفة في كتبهم، وذكروا الأحاديث الضعيفة في كتبهم، وذلك ليس للعمل، فلم يذكروها ليعمل بها أساساً، (إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل) بل قد اتفقوا على أن العمل بالراجح واجب لا راجح، (بل للترقي في مدارج السنا) أي: بل ذكروها للترقي، ومعناه زيادة رفع الدرجات، (في مدارج السنا) في حصر العلم وجمعه، والسناء: الرفعة، أي: لتعلم كل ما قيل في الأمر، فيتقوى لديك الحق وتعرف أدلته وما نوقش فيه (ويعرف المدرك من به اعتنى) أي: وأيضاً ليعرف مدارك الناس فمن كان صاحب عناية بذلك فإنه يعرف واضح الدلالة من خفيها، وقطعي الدلالة من ظنيها.
(وكونه يلجي إليه الضرر) أي: وأيضاً لكون الضعيف قد تلجئ الضرورة للعمل به، لكن بشروط وهي: الشرط الأول: (إن لم يكن يشتد فيه الخور) أي: إن لم يكن يشتد فيه الضعف، فإذا كان الحديث موضوعاً أو ضعيفاً جداً لا ينجبر، فهذا لا يعمل به، وكذلك القول إذا كان قولاً ضعيفاً جداً فإنه لا يعمل به؛ ولذلك قال: (إن لم يكن يشد فيه الخور) .
والشرط الثاني: (وثبت العزو) ، أي: لابد أن يثبت عزوه أيضاً لمن قال به من أهل العلم إذا كان قولاً مثلاً.
والشرط الثالث: (وقد تحقق ضر من الضر به تعلق) أي: أن يتحقق أن الضرورة قد نزلت، (ومثل الضرورة الحاجة الكلية) والحاجة الكلية تنزل منزلة الضرورة، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية: أن الحاجة الكلية أي: العامة تنزل منزلة الضرورة فيستباح بها بعض المحظورات، والضرورات تبيح المحظورات؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وإن الله سبحانه وتعالى يذكر دائماً بعد آيات التحريم الضرورة، فمثلاً في الأطعمة في سورة المائدة، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] ، وهكذا بعد كل استقطاع وعد للمحرمات يأتي ذكر الضرورة كقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145] .