وإنما الغضب شيطان، وأنا جرّأتك باحتمالي إياك، فإن كنت معتمداً، فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوباً فالعذر يسعك، وقد عفونا عنك على كل حال، فقال شهرام: أيّها الأمير عفو مثلك لا يكون غروراً، قال أجل، قال فإن عظيم لا يدع قلبي يسكن، وألحّ في الاعتذار، فقال له: يا عجباً كنت تسيءُ، ونحن نحسن إليك فكيف نسيء إليك، وأنت تحسن.

كتب محمد بن مهران إلى بعض الأمراء: إنّ أحقَّ الناس بالإحسان، من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسط القدرة يده فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما عليك من الحق.

ذكر أن امرأةً من قريش كان بينها وبين رجلٍ خصومة، فأهدت إلى عمر فخذ جزور، ثم خاصمته إليه فتوجه الحق، والحكم عليها، فقالت يا أمير المؤمنين: افصل بيننا، كما يفصل فخذ الجزور فقضى عليها، ثم قال: إياكم والهدايا فإنها تذل الأعناق.

وروي أنّ عمر (رضي الله عنه) قسّم حللاً بين الصحابة كل رجل ثوباً، فصعد عمر المنبر وعليه حلّته، والحلّة ثوبان. فقال: أيّها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان الفارسي رحمه الله: لا نسمع، ولا نطيع، فقال عمر: يا عبد الله ولمَ؟ قال: لأنك قسمت على كل رجل منا ثوباً وخرجت علينا في ثوبين، فنادى يا عبد الله بن عمر فقال: لبّيك يا أمير المؤمنين. فقال: أنشدك الله، الثوب الذي آثرت به ثوبك. قال: اللهم نعم، فقال: أما الآن فقل نسمع.

كان بعض الملوك إذا شاور مرازبته في رأي فقصّروا، دعي الموكلين بأرزاقهم فعاقبهم، فيقولون تخطئ مرازبتك فتعاقبنا هذا ما لا يليق بعدلك. فيقول: نعم لم يخطئوا إلاّ لتعلّق قلوبهم بأرزاقهم، فقد شغلتم قلوبهم بالتوقف فيما ينوبهم، وإذا اهتموا انزعجت خواطرهم، وتكدّرت قرائحهم أخطأوا، أنشدنا الرياشي: [البسيط]

وعاجزُ ذا الرَّأي مضياعٌ لفرصتهِ ... حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القدرَا

وكان ابن الزبير يقول: لا عاش بخير من لم يرَ برأيه ما لم يرَ ثني الله سبحانه على نبيّه إسماعيل، فقال: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [مريم: 54] فقدم صدق الوعد على كل فضيلة. [البسيط]

ولو عليكَ إتّكالي في العراءِ إذنْ ... لكنتُ أولَ مدفونٍ منَ الجزعِ

في مثله: [المتقارب]

وقد علمَ الضَّيفُ، والطَّارقونَ ... بأنَّكَ للضَّيفِ جوعٌ وقرُّ

قال مسلمة بن قتيبة: إني لأرهب الرجل مائة درهم، فأربُّ تلك المائة بألف، مخافة أن يذهب شكري فيها.

قال مسلمة بن عبد الملك: ما أزال في فسحةٍ من أمر الرجل، حتّى يتقدم إليه مني يدٌ، فإذا فعلت فليس عندي، والله إلا ربّها أبداً عليه، حتى الممات. لبعض الشعراء في معناه: [الطويل]

وسمتْ أمراءُ بالعرُفِ، ثم تركتهُ ... ومنْ أحسنَ المعروفَ ربُّ الصَّنائعِ

آخر يهجو أخاه: [الوافر]

أبوكَ أبي، وأنتَ أخي ولكنْ ... تفاصلتِ الطَّبائعُ، والصُّنوفُ

وأمُّكَ حينَ تنسبُ أمُّ صدقٍ ... ولكنَّ ابنها طبعٌ سخيفُ

وقومكَ يعلمونَ إذا التقينا ... منْ المرجوُّ منَّا، والمخيفُ

آخر هجا أخاه: [الطويل]

غلامٌ أتاهُ اللؤمُ من عمدِ نفسهِ ... ولمْ يأتهِ من نحوِ أمٍّ ولا أبِ

المبرد قال: دخلت على أبي أيوب سليمان بن وهب، وهو متولي ديوان الخراج وبحضرته شاعر يمتدحه فسمعته ينشده: [الطويل]

أتيتُ بنَ وهبٍ أبتغي فضلَ عرفهِ ... وما زالَ حلوَ المنعِ حلوَ المواهبِ

فامنحني عزَّ حجتي بطلاقةٍ ... سكوتٌ بها عنْ منغِّساتِ الرَّغائبِ

فاستحسنها، فلما خرج الشاعر قال ابن وهب، هل سمعت من سبق إلى مثل هذا؟ فقلت: نعم، أنشدني المازني بعض المحدثين: [الطويل]

وأبيضَ ذي لونينِ أثناء قولهِ بعادِ ... وتقريبٌ، ويأسٌ ومطمعُ

إذا أمَّهُ الرَّاجي انثنى عن فنائهِ ... وفوهُ منَ التَّفريطِ ملآنُ مترعُ

بلاَ جدَّةِ نالت يداً مستحقَّها ... سوى أنَّهُ هشٌّ، وإن كانَ يمنعُ

قال بعض البلغاء: أوسع ما يكون الكريم مغفرة إذا ضاقت بالمذنب المعذرة، سأل أبو العيناء رجلاً كان يصاحب الحسن بن مخلد عن حاله معه، فأقبل الرجل يشكره، فقال له أبو العيناء: لسان حالك يكذب لسان شكرك.

قال رجلٌ لابنه تدري لمَ سميتك معروفاً؟ قال: لا يا أبتِ، قال: لئلا تنسى اسمك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015