في هذا النص تعداد للأعمال الصالحات التي قام بها هؤلاء المؤمنون الأولون، واستحقوا بها نعيم الجنة، وتوقوا بها عذاب النار، وهي أمور ثلاثة: آخذ بعضها بحجز بعض، ومتلاقية في معناها ومغزاها.
أول هذه الأمور أنهم هاجروا وأخرجوا من ديارهم فهم هجروا مغانيهم التي تربوا فيها غير راغبين ولا محبين للخروج، بل ملجئين مضطرين، ولذلك روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مخاطبا مكة عندما خرج منها: " إنك أحب أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت " (?) ويروى أن ورقة بن نوفل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك. فقال له عليه الصلاة والسلام: " أو مخرجيّ هم " قال: ما أوتى أحد بمثل ما أوتيت إلا عودي (?) والله تعالى يقول: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. . .)، فكان الإخراج سبب الهجرة.
ولقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي أن كلمة هاجروا يراد بها الهجرة اختيارا، والإخراج هو الإخراج اضطرارا، وإني أقول: إن هذه التفرقة لم تكن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما تكون من بعد ذلك، فمن الناس من يخرج من ديار الشرك أو الكفر مختارا ليكون قوة لأهل الإسلام، ومنهم من يخرج اضطهادا وإيذاء، كما فعل كفار اليوم باللاجئين المسلمين.
والأمر الثاني الذي استحقوا به الجزاء الأوفى هو أنهم تحملوا الأذى في سبيل الله تعالى، فهم أوذوا في مكة قبل الهجرة، واستمر الإيذاء بعدها، وكل ذلك في سبيل الله، وفي سب بل الحق وإعلائه، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وإن هذا يزكي الخير فيهم، فإنهم ما أخرجوا من ديارهم، وهجروا أحباءهم وذويهم إلا في سبيل الله تعالى.