ومهما يكن فإن العصر الذي عاش في ظل حضارته كل من السمناني ونظام الملك وظهرت آثاره في عمق ثقافة أولهما وتنوعها ومساعي ثانيهما وجهوده، إن هذا العصر يتسم بقيام الدولة السلجوقية السنية على أنقاض الدولة البويهية التي اصطنعت التشيع وأسرفت في تقييد سلطة الخلافة العباسية وإذلال الخلفاء العباسيين بالعزل وسمل العيون.
ولقد حققت القبائل التركية الموحدة في ظل زعامة السلاجقة ما عجز أسلافهم قبل الإسلام عن تحقيقه من استقلال عن تسلط الحكم الفارسي الساساني والسيادة الفارسية على الشعوب التركية المحاربة، فتهيأ بذلك للامة التركية -كما تهيأ من قبل للامة العربية- أن تبدأ مرحلة تكونها القومي الحديث بفضل اعتناق تلك القبائل المهاجرة الإسلام وتحولها من قبائل مبعثرة إلى أمة مجاهدة تضطلع برسالة الدين الإسلامي الحنيف وتدين للإسلام -كما دان العرب من قبل- بهذا التحول في البنية الاجتماعية فتسارع الخلافة العباسية إلى اصطناعها والاستعانة بها على التحرر من نير البويهيين، وما اصطنعه البويهيون من سياسة إذلال الخلافة العباسية، وما أدخلوه على المجتمع الإسلامي في العراق من عادات غير مألوفة هي في نظر أهل السنة وعقلاء الشيعة أنفسهم من البدع التي لا يقرها الإسلام. ومع ذلك فإن هذا السلطان السياسي والنتول القومي الذي تحقق في ظل الدولة السلجوقية لا يعني قيام القطيعة بين عناصر الثقافة الإسلامية التي اضطلع برسالتها الإنسانية الجامعة جميع العناصر القومية الإسلامية من عربية وفارسية وتركية، فقد كانت تلك الثقافة من القوة والفتوة بحيث لم يزدها قيام دول الطوائف إلا متانة ونتولا، ولذا فإن الدولة السلجوقية التركية احتضنت في مضمار الإدارة والثقافة كلاً من اللغتين العربية والفارسية، ولا غرو فإن القوميات الإسلامية تختلف مفاهيمها عن القوميات الغربية لأنها تقوم على أساس مما دعى إليه الإسلام من التعارف والتواضع لا التنابذ والتعالي ومن الأخوة البشرية لا البغضاء الشعوبية ومن أواصر القربي في الإنسانية التي تمت في البداية بأدم وتنتهي في النهاية إلى التراب.