لقد كان القضاء في عصور طويلة يتمتع بأخطر مركز بعد مركز الخلافة، ولذا كانت دراسة تاريخه من الأمور المتمتعة والجديرة بالبحث لأنها قمينة بأن تكشف لنا النقاب عن طبيعة نظام الحكم في الإسلام، وعن نوع من الديمقراطية والعدالة حاول الإسلام إناطة تحقيقها بالقضاء، وأكد فيها على العدالة والمساواة أمام الشرع وعلى سيادة الشرع على جميع المكلفين حكاماً ومحكومين وعلى التزام القضاء الحياد التام بين المراكز والحقوق فسطر بذلك أنبل ما رمت إلى تحقيقه الثورة الفرنسية من حقوق الإنسان قبل أن تولد هذه الثورة، وأن تسطر فلسفتها بعصور وعصور. ولكن الفقه أناط بالقضاة مهمة النضال في سبيل هذه المبادئ ولم ينط ذلك بقواعد موضوعية أو إجراءات محددة معقدة مضمونة الجواب اللهم باستثناء حق القاضي في تفتيش السجون وإطلاق سراح المسجونين ظلماً.

ولذا فقد تشدد الفقه الإسلامي في صفات القضاة وأعوانهم والشهود وتزكيتهم وتعديلهم، وتشدد السمناني أكثر من غيره لعلة سنشير إليها، ولكنه لم يخدع بما اشترطه هو والفقهاء من قبله فقد اعترف لنا بمرارة بواقع الحال حيث أتيح له معاشرة شيخه قاضي القضاة الدامغاني ثلاثين سنة تولى فيها الشيخ قاضي القضاة منصب القضاء فحدثنا في مواضع مختلفة عن واقع القضاة وعن مجلس شيخه.

تلك هى خصائص النظام القضائي في الإسلام، ولسنا بحاجة إلى أن نطيل القول فيها أكثر من ذلك ولا أن نعرض على القارئ القواعد الدستورية التي حررها الفقه في هذا المضمار لأن كل ذلك سيذكر في كتابنا المفرد لنظام القضاء الإسلامي ولكننا سنكتفي في آخر هذا البحث باستنباط بعض القواعد من كتاب السمناني ليكون مجموعها أنموذجاً لهذا الدستور.

لم يكن السمناني إذن نقالة جماعة في تصنيفه بل كان نقادة رسم لنا الجانب النظري ولم يخف علينا واقع حال القضاء في عصره فنقل إلينا من تجاربه وملاحظته سير الواقع ومجرى الأحداث ما يجعل المتعة المرجوة من كتابه مضاعفة، ولا غرو فقد اكتوى السمناني نفسه بنار القضاء -كما سنرى- وقد أتيح له

طور بواسطة نورين ميديا © 2015